شكشكة: ثورة يوليو فى ذاكرتى و ضميرى

165

المشهد الأول الذى تعيه ذاكرتى كان لجدتى وهى تبكى بحرارة بعد أن استمعت من الراديو الموضوع على رف فى غرفتها الى خبر أزعجها. الأمر الذى لفت انتباهى كطفلة فوقفت خارج الغرفة استمع لأبى وهو يربت على كتفها ويواسيها. كانت فى شدة الحزن بعد أن استمعت لقرار مجلس الثورة بنفى الملك فاروق خارج البلاد. حزنت جدتى على فراق ملك لم تلتقه فى حياتها ولم تكن تحلم بلقائه، بل لم تكن تعمل خارج بيتها ولاعلاقة لها بحكومة أو وزارة ولا شاركت يوما فى انتخابات أو مظاهرات أو أى عمل له علاقة بالسياسة، ومع ذلك فقد كانت تبكى بحرارة كأنها فقدت عزيزا غاليا. هكذا هى طبيعة المصريين. يخلطون السياسة بالعاطفة دائما، وقد يختلفون ويتشاحنون بسبب تعصبهم ذاك وليس لأسباب موضوعية. أما أبى فكان وفديا عتيدا أيد سعد زغلول وشارك هو عمتى الكبيرة، والدة الدكتور مصطفى سويف، فى مظاهرات ثورته. كنت يومها طفلة فى الحضانة وكنا نقف صباح كل يوم لنهتف «عاشت مصر عاش الملك»، وكان فاروق ملكا على مصر والسودان. بعد أيام انتشرت بين الأطفال ورقة مرسوم عليها أربعة خنازير، إذا طبقتها بطريقة معينة، سوف يظهر لك وجه فاروق المكتنز بنظارته المستديرة.
مازالت الأحكام العاطفية على ثورة يوليو وقائدها تتوالى الى يومنا هذا، ومازالت الخلافات والمشاحنات مستمرة لأسباب شخصية أو واهية، ونادرا ما ماتكون موضوعية. وقد التقيت فى حياتى بأشخاص كثيرين عبروا عن كراهيتهم الشديدة لقائد ثورة يوليو لأن ضرا ما قد مسهم أو مس عائلاتهم . الأسباب الشخصية وضعت عصابة كثيفة على عيونهم فلا يرو سوى سلبيات الثورة ونواقص عبد الناصر، فعلا..حبيبك يبلعلك الظلط وعدوك يتمنى لك الغلط. أعتقد أن العيب الأساسى فى شخصية جمال عبد الناصر هو انفراده بالقرار، وقد دفعه الى ذلك بحسن نية، أو العكس، المحيطون به. بعضهم كان مفتونا به، مثل الأغلبية الساحقة للشعوب المصرية والعربية والأفريقية، التى توحدت فى تبجيله، وتلك واحدة من أهم مزاياه. أما البعض الآخر فكانت لهم مآرب أخرى. كنت طالبة فى الجامعة يوم أمم ناصر الصحف الكبرى، وغضبت بشدة ولم أقتنع بأى مبرر لذلك القرار مما أبداه زملائى. لقد وعيت مبكرا أن حرية الصحافة هى المعادل الموضوعى لحرية الشعب، فهى واجهته وصوته وعيونه ومرآته. فإذا كُممت أو ُوضعت الغلالات على عينيها، فقد الشعب بصره وسمعه وأعيق عن تحقيق أحلامه وارتبكت مسيرته بالكامل. وقد ظللت غاضبة من عبد الناصر لفترة طويلة، حتى وفاته. يومئذ أفاقتنى الصدمة وأدركت المأساة التى ستواجهها الشعوب العربية بعد أن فقدت ربان السفينة. وتلك هى خطيئة الديكتاتورية مهما كانت شعبية أو عادلة. رحم الله جمال عبد الناصر، فبانفراده بالسلطة تحمل وحده عبء أخطائها وسيظل يتحملها حتى يأتى يوم ويتم فيه تقنين ماحدث لمصر موضوعيا وبلا أى تعصب طوال الخمسينات والستينات، ولا يجوز أن ينهض بهذا العمل إلا المؤرخون وحدهم.

التعليقات متوقفه