قضية للمناقشة: يوليو: نجاحات ومآس

162

حين زرت الإتحاد السوفيتي فى مطلع الثمانينات فى القرن الماضي، وفى متحف لتاريخ البلاد لفت نظري وجود صورة كبيرة “ لأبي الهول بجانب صورة “ نابليون بونابرت”، وقالت لنا المراقة باسمه أنتم هزمتم “ نابليون “ قبل أن نهزمه نحن، تذكرت هذه الواقعة وأنا أبحث عن مقدمة لمقالي هذا عن ثورة يوليو فى عيدها السادس والستين، إذ كانت الثورة حلقة فى سلسلة متصلة فى تاريخ مصر الحديث، وهي تكافح من أجل الحرية والاستقلال، من أجل العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
فحتى من قبل عصر “ محمد على “ وفى نهاية القرن الثامن عشر قاوم المصريون الحملة الفرنسية فى ثورتين، ثورة القاهرة الأولى وثورة القاهرة الثانية، وطردوا جيوش “ نابليون “ من بلادهم وبعد سلسلة من الانتفاضات ضد التسلط الأجنبي والتحالف المحلي معه، اندلعت الثورة العرابية دفاعا عن حق المصريين فى حكم بلادهم وهزمها الإحتلال البريطاني الذي كان متربصا بالبلاد التي كانت قد هزمت حملة فريزر عليها.
ومضت الأعوام حتى كانت ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني والاستبداد الملكي لتستكملها انتفاضة 1946 بعد أن تفنن المصريون فى الاحتجاج على الاستقلال المنقوص الذي جاءت به ثورة 1919، وأضافت الانتفاضة إلى جدول أعمال الحركة الوطنية مقاومة الرجعية المحلية إلى جانب مقاومة الاحتلال والاستبداد والحكم الملكي الفاسد، وسجل الطلاب والعمال المصريون ملاحم نضالية يحكي عنها تاريخ الإنسانية واختارت الأمم المتحدة يوم 21 فبراير يوما للطالب العالمي تخليدا لذكرى الطلاب المصريين الذي استشهدوا فى الكفاح ضد الاحتلال والملكية.
وكانت ثورة يوليو 1952 تتويجا وحصادا لهذا الكفاح الشعبي المجيد والممتد وبلورت المبادئ والأهداف الستة للثورة أشواق وطموحات المصريين المتطلعين للسيادة والكرامة والعيش الطيب، كما أنها لخصت بصورة عبقرية مضمون الكفاح الوطني الديموقراطي، وأحلام قاعدته الشعبية العريضة التي قدمت أغلى التضحيات وانتظرت الحصاد بصبر وكرامة.
وكان ترتيب المبادئ بدوره عبقريا إذ بدأ بالقضاء على الإقطاع لأن غالبية سكان مصر فى ذلك الزمان كانوا من الفلاحين الفقراء والبؤساء، ولذا كان إصدار قانون الإصلاح الزراعي واحدا من أول القوانين التي أصدرتها القيادة الجديدة بعد طرد الملك وإعلان الجمهورية، وقام عبد الناصر بتوزيع الأرض على المعدمين، وكانوا بالملايين.
أما المبدأ الثاني فكان القضاء على الاستعمار وتحقيق الجلاء وقد تحقق هذا الهدف بعد حرب 1956 التي انتصرت فيها مصر سياسيا بعد تأميم شركة قناة السويس، ثم العدوان الثلاثي الإسرائيلي الإنجليزي الفرنسي على البلاد.
وكان المبدأ الثالث هو القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وأثار نقاشا سياسياً وفكريا من طراز رفيع فى البلاد، وكان السؤال الذي انبثق عنه هو : هل توجد حقا رأسمالية غير مستغلة، وفيما بعد جرى تقسيم الرأسمالية لوطنية وغير وطنية وذلك قبل أن تجرف الجميع رياح العولمة، ولكن قيادة يوليو قلمت أظافر الرأسمالية المصرية خاصة بعد أن رفضت الأخيرة أن تشارك بجدية فى العملية التنموية مما أضطر الحكم إلى إجراء تأميمات واسعة النطاق، خلقت الخصومة بل العداوة بين قيادة الثورة والرأسمالية القديمة، ولكن ذلك كله لم يمنح نشوء رأسمالية جديدة فى أحضان النظام، استثمرت أخطاءه الجسيمة، وعلى رأسها مصادرة الحريات، وإطلاق يد القوى الأمنية لتعذيب المعتقلين أحيانا حتى الموت.
أما المبدأ الرابع فكان إقامة حياة ديموقراطية سليمة، ورغم أن عبد الناصر قدم على الصعيد الخطابي ما يمكن أن نسميه منظومة ديموقراطية حين قال أن للديموقراطية جناحين أحدهما سياسي والآخر اجتماعي، إلا أنه ألغى الحياة السياسية، وجرم حرية تنظيم الأحزاب، وأنشأ حزباً واحدا فى حضن السلطة وقع فى الفشل تلو الآخر، وطالت حملات الاعتقال كل من الإخوان المسلمين والشيوعيين، وتعرضوا جميعا للتعذيب وسنوات الاعتقال الطويلة دون محاكمة، ورغم أن التعذيب هو فى كل الحالات جريمة ضد الإنسانية، ولا تسقط بالتقادم، إلا أن النظام فى ذلك الحين لم يفرق بين الذين حملوا السلاح ضده وهم الإخوان والذين كان سلاحهم التنظيم والرأي وهم الشيوعيون الذين أيدوا الإجراءات التقدمية للنظام رغم كل ما لحق بهم من عذاب وقمع.
وكان المبدأ الخامس هو إقامة جيش قوي، ولم يتحقق هذا الهدف إلا بعد الهزيمة الماحقة فى حرب الأيام الستة سنة 1967، وحين بدأت حرب الاستنزاف بعد أيام قليلة من الهزيمة وجرت إعادة بناء الجيش على أسس حديثة ومهنية مهدت لانتصار أكتوبر 1973.
أما المبدأ السادس والأخير وهو درة التاج كما يقال فكان إقامة عدالة إجتماعية، وفيما بعد وصفها عبد الناصر بالاشتراكية العربية ثم أصبحت الطريق العربي إلى الاشتراكية بعد مناقشات عاصفة ومنافسات مع حزب البعث.
وقطعت يوليو شوطا لا بأس به على طريق العدالة الاجتماعية حين أقرت مجانية التعليم ووزعت الأرض على الفلاحين ومنحت للعمال نصيبا من أرباح مصانعهم بعد أن أشركتهم فى مجالس إدارتها عنوانا لرؤية سياسية جديدة وكان شعار عبد الناصر فى ذلك الحين هو تذويب الفوارق بين الطبقات.
كان استبعاد الجماهير، ومنعها من تنظيم نفسها أو التعبير بحرية بل وتخويفها هو السبب الرئيسي فى انقضاض نظام السادات باسم الحرية على كل ما هو إيجابي فى نظام يوليو، وهو الذي قنن التبعية للولايات المتحدة، وفتح الباب للإخوان المسلمين والجماعات الجهادية لنصل إلى ما نحن فيه الآن.
ولكن كفاح المصريين لا يتوقف، وتأتي الموجة الأولى من الثورة فى القرن الواحد والعشرين لتطرح ما لم نستكمله من جدول أعمالنا.. وما جد على هذا الجدول بعد أن كانت الثورة المضادة قد داست على الأخضر واليابس..
مرة أخرى أهدافنا هي عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية دولة مدنية.
لا يحب الرجعيون ودعاة التحالف مع الامبريالية الأمريكية بإدعاء الواقعية، لا يحبون هذه القراءة لتاريخنا الحديث، بل ويسخرون منها وهي قراءة ضرورية فى ظني لكي تواصل الأجيال الجديدة الطريق الذي بدأه أجدادنا، وسقط عليه شهداؤنا.

التعليقات متوقفه