فى الذكرى السادسة لرحيله.. حلمى سالم .. جامع الفراشات

236

« القصيدة متعة مقلقة» على حسب تعبير « هنري دولوي» وقد كانت القصيدة عند « حلمي سالم « متعة وحياة وقلق، واصطياد للعبارة من بحر متلاطم الأمواج، وضرب لحربة الشعر فى صحراء غير مأهولة.
الشعر عنده يمتلك روح المفاجأة قدر امتلاكه للمفارقة، والكشف عن المسكوت عنه.

منذ قصيدته الأولى أدرك أن الحياة الحقيقية هي ما يؤسسه الشعراء فأخلص للشعر وأحب الحياة فأعطته حتى الآن عشرين ديوانا، كل واحد منها عالم مختلف ورؤية جديدة، وتجربة محتلفة، فهو عازف صنع أوتاره بيديه، يشبه كثيرا ذلك العازف الذي وصفه فى إحدى قصائد ديوانه، الشغاف والمريمات قائلا :
العازف يتوحد فى وتره
يتداخل فى الموسيقى متئدا
مخترقا يسكن نبرته
ليحط الطير على كم قميصي
وهو أيضا ميدان متسع بالرؤية والرؤيا : « لم يك يعرف أن دمائي فى رؤياي / أي ثقوب حياتي حدقات تبصر لتموت / وخطاي / مقل تتملى / رقرقة الملكوت «.
وهو أيضا الصارخ فى أرض القصيدة : « الأمكنة استشرت فى شريان قتيلي / وأنا من تحت الأبنية همست : « الأمكنة هينهاتي والطرقات سمائي».
* * * *
كان يلبس دائماَ ثوب المجرب دون حساب للتجربة أو النتائج، مغامر شرس، شراسة اللغة التي تنتجها التجربة، مجازف إلى حد الذوبان فى المجازفة، عايش حروبا عدة على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام، وفى كل حرب خرج فائزاً بديوان شعر، ربما لتضميد جروح عدة ألمت بالروح، احتفاء بكل ما تجود به الحياة حتى ولو أزخ لحصار بيروت بديوانه «سيرة بيروت، وكتابه المهم « ثقافة تحت الحصار « وقد عايش هذه التجربة الأليمة حين كان يعمل صحفيا فى جرائد المقاومة التي كانت تصدر تحت القصف الإسرائيلي لمدينة بيروت فى بداية الثمانينات. وبالمثل أرخ للانتفاضة الفلسطينية الثانية بديوانه « تحيات الحجر الكريم» وهذان الديوانان إن لم يكونا من أهم أعماله فإنهما يدلان على موقفه تجاه القضايا الإنسانية، وحين سافر فى منتصف التسعينيات إلى إمريكا مع أسرته وأقام هناك لعدة شهور كتب ديوانه « يوجد هنا عميان « واصفا التشيؤ الذي أتى على الأخضر واليابس فى الروح الإنسانية، بفعل ماكينة الحضارة الأمريكية المزعومة، حيث يتحول البشر إلى مجرد ترس، فى آلة اجتماعية لا تؤمن إلا بالمادة.
وحين سافر إلى باريس عام 2002 وأقام هناك لأكثر من عام كتب ديوان « الغرام المسلح» وجاء النشيد :
حقلي القمح هنا
يشبه حقل القمح بغيطان الراهب
والراهب هي القرية التي ولد فيها حلمي سالم فى يونيو 1951 وهي تابعة لمركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية، ويصل الشاعر إلى الفرق الجوهري بين الحضارتين الفرنسية والمصرية، وهل ثم فرق فى العذاب الإنساني، قائلا :
لكن الفرق الفاصل بينهما
أن القمح هنا
مروي بدم الأذن اليسرى للسيد فان جوخ
وقمح بلادي
مروي بدم فلاحي كمشيش
فهل أنت الحائر بين القمحين
****
وحين مرت به أزمة، « جلطة المخ « فى منتصف عام 2005 كتب ديوان « مدائح جلطة المخ « وهو ديوان يقطر بالمعاناة المغلفة بحس فلسفى عميق، يتجاوز لحظة الألم، ليستشرف فضاءات إنسانية متعددة.
حيوية اللغة
وهذه هي إحدى أهم خصائص التجربة الشعرية التي تميز الخطاب الشعري لحلمي سالم، إنه شاعر متجاوز، عابر للحظة، دون أن يترك أبعادها، ودون أيضا أن يتركها تتملكه فلا تقع فى فخ الرومانسية المجانية، بل يمتلك على حد تعبير الشاعر البحريني قاسم حداد، حيوية وقدرة على التحول والانتقال فى لغته الشعرية من بنية النشيد الرومانسي الغامر إلى بنية السرد الفجائعي الجارح، وفى هذه المسافة الفنية والزمنية التي استغرقتها كتابته، سوف تحافظ لغتة الشعرية على حس السخرية السوداء، التي لن يتخلى عنها فى مجمل كتبه، وهي الخاصية التي ستنقذ كتابته دائما من رتابة تعثرت بها الأصوات الأخرى.
خصائص فنية
وما ألمح له « قاسم حداد « فى عبارته السابقة يأخذنا للحديث عن أهم الخصائص الفنية فى شعر حلمي سالم :
وأولها : التمرد على فكرة الشكل والمضمون فمساحة القصيدة عنده صالحة لبذور شتى وهي غير مؤطرة أيضاً بأي إطار سوى ما تفرضه الحالة الفنية للنص، وهذا ما يجعل تجربته قوسا مفتوحا، يصطفى أشكالا متعددة من الكتابة.
ثانيها : المزج بين شراسة الواقع وفضاءات المتخيل، فدائما هناك صوتان متقابلان، فى النص يتناوبان فى الحوار، وربما تكون تلك الخاصية هي التي تجعل من القصيدة لديه نفسا شعريا واحدا ممتدا، يعبر عن قضية جدلية اجتماعية أو سياسية أو حتى شخصية تنطلق من أفقها الجمالي إلى الأفاق الأخرى ذات الصلة بالواقع.
ثالثها : التناص مع التراث وهي خاصية يشترك فيها كثيرمن شعراء السبعينيات، وقد أفردت لهذه الخاصة الشاعرة د. فاطمة قنديل رسالتها للدكتوراة والتي صدرت بعد ذلك فى كتاب عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، إلا أن « التناص « عند حلمي سالم متعدد فهناك التناص مع التراث الصوفي، وتناص مع الشعر العربي القديم، وتناص مع التراث الثقافى العالمي، مما يعطي للشعر مرونة من تعدد روافده.
رابعها : الأفق السياسي فكثير من أعماله الشعرية تتخللها نصوص ذات طابع سياسي، حتى وإن جاءت ذات طابع إشاري، فهناك دواوين بكاملها سياسية المنحي مثل « سيرة بيروت « و» تحيات الحجر الكريم « و» حمامة على بنت جبيل « و» إرفع رأسك عالية « وهو ديوانه الأخير الذي كتبت قصائده أثناء وبعد ثورة 25 يناير.
ولكن الملاحظ فى معظم هذه الأعمال أن حلمي سالم لا يدخل القصيدة السياسية من باب المباشرة بل يضفر السياسي بالجمالي، وعادة ما ينطلق من القضية الصغري / الذات إلى القضية الكبرى التي تخص المجموع.
خامسها : شعرية التشكيل البصري، فالنص لديه متعدد المستويات سواء على مستوى الكتابة أو على مستوى الرؤية، وهذا التعدد ناتج عن تلاحق الصور وتدفقها.
سادسها : اللغة الهجين، التي تمزج بين ما يطرحه الموروث اللغوي فتتجاوزه إلى ما تطرحه اللغة اليومية التداولية التي يستفيد منها من خلال استنطاق طاقاتها التعبيرية وعلى حد تعبير د. محمد عبد المطلب، فإن « إستدعاء التداولي إلى رحاب الشعرية يعني رفع الحياتي إلى أفق الجمالي «.
سابعها : المزج بين الغنائية والسرد، وعبر هذه الثنائية دارت التجارب الأولى للشاعر، فى دوواينه « الأبيض المتوسط « و» سكندريا يكون الألم « وإن لم يتخل عنها فى دواوينه التالية، مع اتساع مساحة السرد، حتى وإن جاء فى إطار تفعيلي.
ثامنهما البورترية الشعري، فلا يكاد يخلو ديوان من دواوين الشاعر من قصيدة أو أكثر عن إحدى الشخصيات ففى « سيرة بيروت « تجد قصيدة « حديث سليمان « عن البطل المصري الجندي سليمان خاطر، وفى « الواحد الواحدة» نجد أولى قصائده « ثلاثية المصري «.
شرفات المحبة
وفى ديوان « حمامة على بنت جبيل « نجد قصائد عن « فريدة النقاش»، وابنته « رنيم» وحفيدته « جمانة « أما قصيدته « حديث سائق الجرافة، فمهداه إلى المناضلة الأمريكية « راشيل كوري» التي دهستها جرافة إسرائيلية فى الأرض المحتلة أثناء وجودها ضمن وفد حقوقي، وفى ديوانه، أرفع رأسك عالية، نجد قصدة « سالي زهران» بالإضافة إلى مجموعة من قصائده التي لم تنشر فى ديوان حتى الآن « وصايا أنس « عن الطفل أنس أحد ضحايا حادث استاد بورسعيد، وقصيدة عن الناقد الراحل « رجاء النقاش» وأخرى عن جيفارا وغيرها.
أما ديوانه البديع « الغرام المسلح، فتتخلله مجموعة من الصور والبورتوريهات الشعرية عند رواد التنوير أمثال طه حسين ومحمد عبده ورفاعه الطهطاوي. حلمي سالم من فصيلة الحفارين فى أرض اللغة لا فرق على مائدة التشريح الشعري بين لفظ هجين ومستغرب ولفظ دارج، الفرق الوحيد يكمن فى وضعية هذا اللفظ داخل السياق الشعري الموار والملتهب بدلالات شاسعة. وعلى ما اعتقد فاتساع رقعة القصيدة عند « حلمي سالم « توازي اتساع رحابته الإنسانية، فعلى المستوى الشخصي وعلى المستوى الشعري قد تتفق أو تختلف معه، لكنك لا تملك إلا أن تحبه، لأن الحب يكمن فى الاختلاف، وهذا أحد أسرار صلابته وقدرته على تجاوز المحن الكثيرة التي مر بها، التي برغمها فإن شرفات المحبة لم تزل مفتوحة على مصاريعها.

التعليقات متوقفه