ضد التيار: تعليم كالماء والهواء

201

قبل سنوات ليست بعيدة، اكتشف أب تلميذ فى الصف السادس الابتدائي فى كتاب المطالعة المقرر عليه من قبل وزارة التربية والتعليم قصة بعنوان الصقور والعصافير، تروي ببساطة حكاية ضيق العصافير من سطوة الصقور على مساحات الفضاء الجوي الذي تطير فيه. لكن ذكاء العصافير قادها إلى فكرة التخلص من تلك الصقور، تقوم على استدراجها إلى خيمة، وحين تدخلها تحكم العصافير إغلاقها عليها، ثم تقوم بإشعال النار بها، وهكذا تقضي على منافسها فى الطيران فى الفضاء الجوي. وليس هناك أي مغزى تربوي لهذا النوع من القصص، سوى تعليم الأطفال ممارسة العنف والإرهاب، ولولا الضجة التي أثيرت فى وسائل الإعلام حول هذا اللون الجهول من التعليم، ما قامت وزارة التربية والتعليم آنذاك بحذف القصة من المنهج الدراسي.
وماكادت قصة الصقور والعصافير تُخمد، حتى كشفت وسائل الإعلام وقائع قصة مماثلة هذه المرة لدى تلاميذ المدارس الإعدادية
وفى مناهجهم يدرس التلاميذ سيرة القائد «عقبة بن نافع»، حيث تروى السيرة حكاية تقول:
إن القائد العربي استولى على إحدى القرى دون حرب، لأنه استخدم ذكاءه بالتسلل ليلا إلى القرية، وأقدم على ذبح أهلها وهم نائمون، وبفرض أن الواقعة صحيحة تاريخيًّا، فإن إدراجها فى مناهج تعليمية لصغار مراهقين، فى سياق التغني بذكاء القائد العربي، لا معنى له، سوى التشجيع على العنف والإرهاب وممارسة الخداع.
تذكرت تلك الوقائع وكثير غيرها، وأنا أستمع إلى شرح وزير التعليم الدكتور «طارق شوقي» فى مؤتمر الشباب الأخير لهيكل النظام التعليمي الجديد، الذي ينهض على إلغاء نظام التلقين والمجاميع والدروس الخصوصية والسناتر الذي أدى إلى انهيار المنظومة التعليمية برمتها، وتركها لعقود نهباً لصراع النفوذ والمصالح المتضاربة للمتاجرين بها.
النهوض بالتعليم هو المدخل الصحيح لإعادة بناء الهوية المصرية، وحمايتها من التشويه والهيافة والتغريب الذي ينتج أجيالا تعرف عن الكرة ورقصة كيكي أكثر مما تعرف عن تاريخ بلدها وزعمائه وتراثه وثقافته ومفكريه.
لابديل فى خطة تطوير التعليم الجديدة، عن نسف المناهج التعليمية القائمة، لا تنقيتها من قصة هنا وسطر هناك، وتجديدها بمناهج تشكل فى مرحلة التعليم الأولى قبل الجامعي، ما يسميه طه حسين تكوين وجدان وطني مشترك يعزز لدى طلاب تلك المرحلة قيم الانتماء الوطني وحقوق المواطنة والانفتاح العقلي والوجداني على كل الثقافات.
ولتكن خطة التطوير التي طرحها الوزير شوقي، خطة مجتمعية ينخرط فى تنفيذها كل الوزارات والمؤسسات، ولتكن لنا فى التجرية الماليزية التي قادها «مهاتير محمد» أسوة حسنة عندما استهدفت على مدار عشر سنوات تحقيق فلسفة تعليمية تقود إلى نهضة صناعية واستثمارية كما تحقق الآن.
خطة تعليمية، تلغي التفاوت الطبقي فى مستويات العملية التعليمية وتنهى الازدواجية بين التعليم المدنى والدينى وبين التعليم الحكومى والخاص وتجعل التعليم كما قال طه حسين متاحاً للجميع كالماء والهواء، وتلك هي التنمية البشرية الحقيقية للنهوض بالبلاد من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، تعليم للجميع كالماء والهواء هو المدخل الذى لا بديل عنه لذلك النهوض.

التعليقات متوقفه