ليــلــة فـــى حـــب حلمـــى ســالــم.. المشاركون: قيمة شعرية تتجدد على الدوام

139

«إننا ونحن نحتفى اليوم بك، نحتفى فى الحقيقة بالقوة التي لم نتمكن من امتلاكها، بالتشبث الذي لم نعشه، وبالشعر الذي لم نكتبه، بالمغامر الذي تمنيناه فينا ثم امتشقنا رباط العنق ووقفنا فى صفوف المتأنقين، بالحرية التي اختلستها بخفة يدك ولم تترك لأتباعك أثرا يدل حتى على ما تبقي من عظامها، بالشيخوخة التي لم تترك أيا من عوارض، هذه الكلمات أثارت غضب الشاعر الكبير حلمي سالم، فى نقابة الصحفيين عام 2012».

بعد أن ألقاها الشاعر محمود قرني فى الاحتفال الذي أقامته جماعة شعراء غضب، ويقول الشاعر محمود قرني، خلال الأمسية التي نظمها منتدى الشعر المصرى الجديد بمقر حزب التجمع عن الراحل حلمي سالم، الأسبوع الماضي بحضور عدد من الشعراء والمثقفين، عندما نتذكر حلمي سالم، فلابد وأن نحتفى بالشعر فى مظانه؛ نحتفى ببكارة الاكتشاف ومهارة السبك وثراء التخييل، نحتفى باستمساك اللغة بسحرية وهي خليط من العابر والمجاني والأسطوري. وأضاف قرني، أن تراث حلمي « وهو كبير» يـؤكد لنا أنه بين أكثر الشعراء العرب المحدثين تقلبا فى اللغة وعلى اللغة، وبحق واحد من سحرتها. وربما أكثر من آمن بيننا بمقولة بورخيس: «اللغة لا تصنعها المجامع، بل تُخْلَق على أفواه الفلاحين والصيادين، وجامعي الثمار وصناع الغبار». وتابع قرني، سيتأكد قارئ شاعرنا مع أول مطالعة أن نصا واحدا له قادر على المراوحة فى الزمن بحيث يجمع بين أزمنة ولغات متباينة، فى الوقت الذي يدرك فيه جيدا الدور الاجتماعي للنص الشعري، لافتا إلى أن كان معتقده يبدو تعبيرا دقيقا عن الوعي العميق بوظيفة الشعر. لذلك ظلت تجربة حلمي سالم تمثل هذا النموذج الذي يعيد اكتشاف طاقاته الجمالية والمعرفية داخل شروط ثقافته بتجليها الاجتماعي والسياسي، مع إدراك شديد الوعي، بالتقاطعات الحضارية التي تمثل قيمه الجمالية أهم تجل لها.
وأكد قرني خلال الندوة، أن النقد لم يكن بعيدا عن مراحل تطور تجربة حلمي الطويلة ومركبة، وأيا كانت التقييمات التي تدور حول شعريته فإنها تضعه فى النهاية وبجدارة فى الصف الأول بين شعراء جيل السبعينيات فى العالم العربي.
مضيفا شعرية حلمي سالم لم تكن إلا صدى لمعتقداته الذاتية ولانتماءاته الاجتماعية والسياسية لذلك بدت المسافات متقاربة بين سؤاله الشعري وسؤاله المعرفى فى إطار المرجعية الرمزية لمعتقده السياسي « اليساري» بالأساس، وكذلك صورة انتمائه للمكان كواحد من التمثيلات الروحية للجماعة البشرية التي يتحدث الشاعر باسمها، وكونه أيضا واحدا من أصداء الهوية، لافتا إلى أن وسط هذا الصخب حافظ نص حلمي على مغامرته الجمالية حتى لا يتحول إلى نوستالجيا واستعراض لسيرة تجتر محنتها الشخصية.
وأوضح قرني، أن جيلنا نشأ فى ظل النموذج السبعيني المصري. حيث كانت البيانات النارية التي قدمتها جماعتا «إضاءة « و» أصوات « تمثل الصوت الصارخ الذي يجأر بثقل الكهنوت الثوري كلي المعرفة، الذي احتكره جيل الريادة. وكان حلمي بين الفريق الذي رضا من التنظير بقليله، فى المقابل كان الأكثر خوضا فى آبار الشعر ووديانه لذلك بدا بين أقرانه الأكثر مغامرة ومن ثم الأكثر قدرة على الاكتشاف.
وتابع، أن حلمي سالم، كان يرى الناس فى كل شيء، لذلك كان يسخر من فكرة موت القارئ ويراها أثرا من آثار عدوان العلوم التجريبية على النقد، من هنا كان يرفض خضوع الزمن الشعري لمقولات النقاء الخالص، فى الوقت نفسه كان يبجل الوعي المقابل لسطوة السؤال الوجودي ويبجل الجهد البشري المبذول فى فك طلاسمه، ونصه يقول إن الشاعر الذي لا يمتلك مثل هذا الوعي، يقوم فى المقابل بتثبيت المشهد وتثبيت السائد، لذلك لم يكن نصه إلا اختراقا لهذا الثبات.
وأكد أن مشكلة التلقي التي تواجه شعرية الحداثة وما بعدها ناتجة عن الرغبة فى الإدراك الكلي للعالم عبر النص رغم أن ذلك لم دور الشعر عبر التاريخ.
وذكر قرني «الحكمة جبينك» قائلاً: ربما لذلك نعيد على مسامعك ما قاله عمارة بن عقيل لأبي تمام : يا أبا تمام أمراء الكلام رعايا لإحسانك.
دروس الحياة
وقال الشاعر عيد عبد الحليم رئيس تحرير مجلة أدب ونقد، لم يكن وداعك يا حلمي فى الثامن والعشرين من يوليو 2012 نهاية الرحلة، ربما رحل الجسد، وصار ترابا، ولكن الذكري للإنسان عمر ثان. فروحك تطوف دائما فى هذا المكان، تضيء الطريق، وتفتح نوافذ أمل لمن يرد أن يمشي فى دروب الشعر الوعرة، أنت الذي أعطيت دروسا فى معني الحياة، وأهمية أن تعشق بقلب رحب، وأن تعانق الحياة بعيون مفتوحة.
ان لا نركن للجرح وان طال، وأن نجفف الدمع سريعا، حتى تستطيع عيوننا أن ترى الصبح القادم بلا أدني تشويش.
وتابع عبد الحليم، ستة أعوام مرت ولم تزل أوراقك على نفس المكتب فى المجلة، حينما أحاول الاقتراب منها أحس بأنك هنا، أنا الذي كلما زارني أديب أو مثقف دائما ما أشير إلى مكان جلوسك وأتحدث عنك دون وجود أي صيغة للغياب، وكأن مثل هذه الصفة قد أخذها بحار قديم فى جراب وألقاها فى عرض البحر، وهو يخرج لسانه للعابرين.
وأضاف، مرت علينا حصارات كثيرة ورجعنا بهزائم متعددة، وندوب.. غابت فيها الروح ومع ذلك صورتك التي على جدار الروح معلقة لم تزل تزينها ابتسامتك الحنون، وكأني أسمعك تردد بيتا من «غرامك المسلح» وتقول: «محترف حصارات لو مر عام بدون حصار أرتاب».
ديوان الشعر
وفى السياق ذاته قال الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق، إن التشكيل الجمالي هو أحدي السمات البارزة فى تجربة حلمي سالم الشعرية حيث إنه يعتمد على جماليات الصورة التي يقوم بتوظيفها تلقائيا وفى إطار فني بالغ الروعة فى معظم دواوينه، منها على سبيل المثال: ديوان «يوجد هنا عميان» الذي قامت فيه الصورة بدورا رئيسي ونجده متأثرًا ببعض المدارس الفنية التشكيلية، كما نجد بعض أسماء الفنانين التشكيلين العالميين داخل نصوصه الشعرية، وأضاف فى ديوان آخر بعنوان «عيد ميلاد سيدة النبع» نجد الحديث عن مجموعة من أسماء الفنانين التشكيلين، والمعماريين، أي اهتم بقضية الثقافة والفن، كما نجد فى ديوان «الغرام المسلح» أسماء بعض رواد التنوير والفن المصريين والأجانب.
لغة متنوعة
وتحدث الدكتور صلاح السروي، قائلاً: رغم مرور ست سنوات على رحيل حلمي سالم، إلا انه لم يفارقني قط، فله عندي من نكاته، ومواقفه، وضحكاته، وإصراره ما لا يمحيه الزمن.
فحلمي كانت له حياة زاخرة بالاستهتار والفوضوية، والانضباط، والحمية الشديدة والفاعلية المتألقة، هذا هو الوسيم الجميل، والقبيح الفظ فى بعض الأحيان. ويضيف، عندما ادخل إلى مكتبه أجد الدنيا فوق بعضها سواء فى أدب ونقد أو فى بيته، فان حلمي لم يكن شاعرا بل كان شعرا يسير على الأرض، حياته على هيئة قصيدة، فانه يحب ليس كانسان يعشق، وأينما كشاعر يكتب قصيدة، وكان أيضا ينحاز بمجامع ذاته ونفسه هو الذي ألقي بنفسه فى آتون الحرب الأهلية اللبنانية ولم تكن له فيها ناقة ولا جمل، وذهب مهربا فى سفينة من الحصار لكي يعانق سعد يوسف ومحمود درويش، ويعيش أيضا حالة الحصار الفلسطيني، كما كأنها تلك قضيته الشخصية، لافتا إلى انه كان على هذا النحو من العرامة والاندفاع والتوقد الروحي العنيف الفعال الذي لا يتوقف عند لحظة واحدة من الثبات بل كان دائم الاندفاع ودائم الحركة.
ويوضح، حلمي سالم الذي يبدأ من الأبيض المتوسط إلى حمامة على بنت جبيل، لكي ينقل لنا مشه الصمود والانتصار فى جنوب لبنان، هو الحياة بكاملها واليومي القومي والوطني والذاتي والشخصاني بشدة.
وتابع، حلمي سالم لديه بعض الصياغات اللفظية التي لا تحتملها ضرورة مثل «خذوا الإوزة من عنقه».
وسلوك حلمي الشعري بعلاقته الوطيدة للغاية بالموروث والمقدس، فلديه حوارية دائمة بينه وبين الماضي، وبين التراث المنقود والمحتفى به، المفعل والمعاد إنتاجه، فهناك لعبة بالغة العنف يمارسها فى علاقته بالتراث.
ونتذكر جميعا قضيته الشهيرة مع يوسف البدري، لنجد أن الثقافة المصرية بعد أن كانت رائدة ومنورة يصبح إعلامها وعناصر قوتها محل اتهام.
ويوضح السروي، أن شعره يجمع ما بين الغموض والوضوح التام، واليومية والعلاقات البعيدة، فهو دائم التلاعب بفهم المتلقي، كونه يمارس نوعا يسمونه البلاغيون «الإرصاد» وهي تقنية فى الشعر القديم، وهي أن تقول بيتا من الشعر ثم يتوقع المتلقي قافية البيت التالي، فيكمل البيت الثاني وان لم يقوله الشاعر، فلديه قرب شديد من قاموس المتلقي.
ويكمل سروي، لم يكن حلمي سالم مجرد شاعر بل كان بركانًا متفجرا وحضورا وهائجا ملء الدنيا بالفعل والقول والكتابة، فهو الصحفي، ورئيس التحرير والشاعر، والكاتب المهتم بقضايا الفكر والوطن، والمناضل وصاحب الدور السياسي، المعتز بعضوية الحزبية، والمشارك النشط الفعل فى فعالياته ونضالاته التي لم تتوقف، فهو كان عاشقا حقيقيا ومعشوقا ومعشقا من الجميع، فهو كان عاشقا للشعر إلى حد الهوس، فقد كتبه فى كل حالاته النفسية والمادية والسفر والحزن والمرض والألم، والحب، وكانت كل الظروف على اختلافها وظروفها هي مناسبات نموذجية لكتاباته، حتى مع كل مغامرة يخوضها كنا نحن أصدقائه ننتظر أن يخرج إلينا بديوان شعر، فكان الشعر متكأه وسنده، وسلواه ومن اجله يستهين بكل المشاق.
وأكد صلاح، أن حلمي سالم أصر على ترك فراشة فى أيامه الأخيرة لحضور ندوة برغم تحذيرات الأطباء ليلقي فيها ديوانه الشعري الجديد «معجزة التنفس، لذلك منحه الشعر نفسه وأسس له القياد فجدد وزود وجاد وأفاض بلغ ما كتبه العشرين ديوانا.
واختتم كلمته قائلا: «كانت غرفة رئيس تحرير أدب ونقد فى جريدة الأهالي بشاشا وملتقي الأصدقاء».
الأشكال الشعرية
بينما قال الناقد والشاعر دكتور محمد السيد إسماعيل، إن الشعر عن حلمي سالم ليس أن أقول قصيدة فى قضية ما مهما بلغ نبل هذه القضية، بل لابد من وجود تغيير للواقع، ولابد وان يقدم بشكل جمالي مغاير، كونه يرى أن الدفاع عن قضية بشكل تقليدي إضرار بالقضية نفسها.
وأضاف، اتهم شعر السبعينيات كثيرا بأنه رافض أن يصطنع مقولة القطيعة على التواصل وهذا كان فى بدايته صحيحا مثال: وصف أمل دنقل أخر شعراء الجاهلين. ومن هنا تأتي المقولة الثالثة لحلمي سالم الحداثة أخت التسامح، أي الحداثة هي أفق التنوع.
مؤكدًا أنه امن بفكرة التنوع والتعدد الخلاق كونه تجلى على مستوى الشكل كونه جمع بين الشعر العمودي، قصيدة النثر.
وصنف إسماعيل شعر حلمي سالم، إلى شعرية الجسد، أو الشعرية التي تقوم على تجربة العشق، وهناك ديوان كامل بعنوان «فقه اللذة».
والشعر السياسي، بمعناه المباشر وهو ينطلق من قضية قومية مثل تجليات الحجر الكريم، حمامة على بنت جبيل.
وشعرية الكشف والمواجهة كما فى القضية الشهيرة التي رفعت عليه والتى كتب عنها ديوانه «الشاعر والشيخ».
وشعرية التجريب الشكلي، وهو صناع لغة.
وأخيرا شعرية الأنا والأخر، وهي قضية تم تناولها كثيرا فى السرد الروائي وظهر ذلك فى ديوان «الغرام المسلح»، و ديوان»يوجد هنا عميان».
وقدم الشاعر أيهاب خليفة شهادة حول الشاعر الراحل.

التعليقات متوقفه