قضية للمناقشة: ليبرالية وليبراليون

160

لفت نظري فى العمود الصادق والعميق الذي كتبه الزميل العزيز «أسامة الغزالي حرب» فى الأهرام عن حسين عبد الرازق ومرضه وعني: قوله فى تعريفه لموقفه السياسي أنه «كليبرالي».
وهو ما أعاد إلى ذاكرتي بسرعة الرسالة التي كنت قد كتبتها قبل أسابيع قليلة للزميل «خالد منتصر» حول الليبرالية المصرية، وكنت قد وددت أن أناقشه هو وعدد من الزملاء حول كتاباتهم عن الليبرالية المصرية، تاريخها وممارساتها، خاصة أنهم اعتبروا حزب الوفد حتى هذه اللحظة هو الممثل الحقيقي لها، ولكن على ما يبدو فإن الرسالة لم تصل للزميل خالد.
واختلفت كثيرا مع هذا التوجه سواء فيما يتعلق بخصائص الليبرالية المصرية قديمها وحديثها، أو فيما يتعلق بحزب الوفد كممثل لها. وقبل ان أوضح موقفى أود أن أؤكد أن تاريخ البشرية بكل التطورات التي عرفها على الصعد كافة معرفية وسياسية، لم يعرف أبداً أن واقعاً ما كان انعكاساً حرفيا لما جاء فى الكتب، وقد قيل إن النظرية رمادية أو جرداء فى قول آخر، بينما الواقع أخضر.
وإذا ما طبقنا هذه الحقيقة على تاريخ الليبرالية فى أي مكان فى العالم فلن تفاجئنا هذه المسافة الكبيرة والتي تتسع أو تضيق للظروف بين ما جاء فى «الكتاب» وبين الممارسة الواقعية، فإذا كانت الليبرالية تعني فى حدها الأدني ما يمكن أن نسميه «تقديساً» للحريات العامة، وبخاصة حرية الفكر والتعبير والاعتقاد، فإن أمريكا، وهي النموذج الذي طالما وجد فيه الليبراليون فى كل مكان ما يمكن أن نسميه المثل الأعلى لهذه الليبرالية شهدت واحداً من أبشع صور العدوان على حرية الفكر والتعبير، والاعتقاد فى منتصف القرن العشرين حين عصفت «المكارثية» بالمئات من المثقفين دون إتهام محدد أو قضاة أو محامين بدعوى غامضة ومطاطة وشديدة العمومية هي أنهم «معادون» لأمريكا وأمنها القومي، ومات منهم من مات، ودخل إلى السجن من دخل، وتعرض للطرد آخرون، وطالت البطالة والمنع من العمل الجميع.
ويتذكر الأمريكيون هذه الصفحات السوداء من تاريخ «ليبراليتهم» بخجل، حتى إن الرئيس «دونالد ترامب» وهو من هو يتحدث عن المحاكمات التي يتعرض لها باعتبارها «مكارثية» أي شيء مخجل، وعار على أمريكا على حد قوله.
فإذا ما توقفنا أمام تاريخ الليبرالية فى مصر سوف نجد أن الزعيم الوطني «سعد زغلول» هو الذي اتخذ قرار حل الحزب الشيوعي فى مطلع العشرينيات من القرن الماضي، وأن النائب الوفدي «عبد الحميد البنان» هو الذي قدم بلاغاً للنيابة العامة طالب فيه بالتحقيق مع «طه حسين»، ومصادرة كتابه «فى الشعر الجاهلي» بدعوى أنه يطعن فى الدين وربما كانت تلك هي فاتحة الاتهامات التي توالت بعد ذلك ضد مفكرين، ومبدعين من مشارب مختلفة بذات الدعوى، أي الطعن على الدين، من خالد محمد خالد «إلى» نصر حامد أبو زيد «، مروراً بالعشرات من المبدعين والسياسيين والمفكرين.
واشتبك معي الزميل «جمال بدوي» رئيس تحرير جريدة الوفد الأسبق فى نقاش حاد بنقابة الصحفيين فى ندوة عامة، حين طالبت الزميلات والزملاء حينها، بإدانة عمليات التكفير المتلاحقة للمفكر الراحل «نصر حامد أبو زيد» وصولا إلى الحكم بتطليق زوجته الأستاذة الجامعية «د. إبنتهال يونس» بإدعاء أنه لا يجوز لمسلمة أن تعيش مع رجل مرتد.
وقال «سلامة موسى» فى خمسينيات القرن الماضي إنه لم يعد يجد فرقا بين صحف «الوفد» وصحف «الإخوان المسلمين»، والحق أن تحالف حزب الوفد مع الإخوان سياسياً وهو مالا يجوز أن ينكره عليهم أحد، كثيرا ما تجاوز السياسة إلى الفكر وهو ما يتنافى تماما مع المبادئ الليبرالية كما جاءت فى « الكتاب».
ومن الظلم البالغ أن نتوقف فحسب أمام ممارسات حزب «الوفد» المنافية للمبادئ الليبرالية لأن هناك أحزابا يسارية مارست مواقف مشابهة ومتناقضة تمامًا مع ما قالت إنه إيمانها بالحريات العامة التي هي أساس الليبرالية.
واتفقت كل الأحزاب المصرية حتى الآن ليبرالية ويسارية على التنصل من العلمانية بل وإدانتها إذا اقتضى الأمر، ولم تدخل هذه الأحزاب فى أي نقاش جدي مع جماعات المتاجرين بالدين حول حقيقة العلمانية باعتبارها رؤية علمية موضوعية لعلاقة الدين بالسياسة وبالدولة، ولا علاقة لها بالإلحاد، ولا تدعو له وإنما تدعو إلى أن تقف الدولة على نفس المسافة من كل الديانات والمعتقدات دون أن تتبنى أيا منها، وهي تصبح فى هذه الحالة دولة كل مواطنيها دون تمييز، ويكون هذا الموقف هو المرتكز العقلاني لرفض أي تمييز على أي أساس، وعلى أساس الدين على نحو خاص، وهو التمييز الأكثر شيوعاً، بل وحين قال رجب طيب أردوغان، أثناء زيارته لمصر إنه مسلم علماني ولا يري تناقضا بين الأمرين، انهالت عليه اللعنات.
وكان رئيس حزب «الوفد» السابق «سيد البدوي» من أشد المعادين للعلمانية، وأخذ ينفى بحسم أن يكون حزب الوفد حزبا علمانيا، والعلمانية هي أساس ثابت من أسس الليبرالية.
تمنيت من كل قلبي أن تكون تجربة الليبراليين الجدد فى مصر والذين ينتمي لهم الزميل العزيز «أسامة الغزالي» أسعد حظا من سابقاتها، وإن كانت التجربة الحزبية الجديدة والتي لا تزال مقيدة حتى بعد موجات الثورة، لاتزال أيضا فى أمس الحاجة لعمل نضالي متواصل لإسقاط كل القيود على الحريات.

التعليقات متوقفه