ضد التيار: عندما تتعهد الوزيرة بمكافحة القبح

210

قبل نحو ثلاث سنوات أصدر مجلس الوزراء قرارًا، بمنع إقامة تماثيل فى الميادين العامة قبل العودة لوزارتى الثقافة والآثار، بعد أن انتشرت مظاهر القبح و التشوهات فى التماثيل المنصوبة فى بعض المدن والميادين، فى محاولة لعدم تكرارالأعمال التى تقود إلى هذا التشوه. ووقتها دعوت إلى إقامة لجنة قومية عليا، تصبح هى الجهة الفنية الوحيدة التى تتعامل مع التماثيل على أسس فنية وتاريخية، تتشكل من الوزارتين وتضم ممثلين لأقسام العمارة فى كليات الهندسة ونقابة المهندسين، وأقسام النحت فى كليات الفنون الجميلة، ونقابة التشكيليين، والوزارات المعنية بالمحليات والسياحة، لتجرى مسابقات بين نحاتين فنانين محترفين – لاموظفين- يقدمون نماذج للشخصيات التى سيتم إقامة تماثيل لها. ومن البديهى أن يكون مشهودا لهؤلاء النحاتين بالكفاءة والموهبة والذائقة الجمالية والبصرية الراقية، وأن يملكوا من الثقافة ما يؤهلهم للتفرقة الواضحة بين تماثيل الميادين الشامخة، وتماثيل الحدائق النصفية، أو صغيرة الحجم، ومن القدرة على إحداث التناسق المطلوب بين حجم التمثال وقاعدته وبيئته المحيطة به.
وكانت هذه الدعوة قد جاءت عقب أن استيقظ سكان ميدان سفنكس فى حى المهندسين على مفاجأة غير سارة ذات يوم صيفى حار من عام 2003، إذ وجدوا فى حديقة الميدان، تمثالا كئيبا منصوبا لشيخ بائس هرم محنى الظهر، واهن الجسد، عابس الوجه، يبدو فى نظارته الطبية كما لو كان كفيفا، يظن من ينظر إليه أنه على وشك السقوط، من فرط تعب وإجهاد صاحبه، لولا توكؤه على عصاه. لم يصدق أحد أن هذا المسخ الشائه هو تمثال نجيب محفوظ، فمن قرأ أدبه، واقترب من شخصه يدرك بسهولة أنه ابن نكتة فى الكتابة وفى الحياة، لاتخلو معظم رواياته من مفارقات ساخرة تبعث على الضحك، كما يتبين له أيضا أن ابتسامته كانت أبرز شىء يميز قسمات وجهه، وكانت من فرط جمالها تملأ الدنيا فرحًا وبهجة ونورًا، فمن أين أتى النحات بكل هذا العبوس والبؤس والظلام ؟ حين سئل نجيب محفوظ آنذاك من رفاق ندوته الأسبوعية، عن رأيه فى تمثاله أجاب بسخرية ضاحكة: يبدو أن الفنان الذى نحت تمثالى، لم يقرأ لى سوى رواية واحدة هى “الشحاذ”!
كان تمثال نجيب محفوظ هو واحد من عدة تماثيل لرموز سياسية وفكرية وفنية تم تصميمها لتزيين عدد من ميادين القاهرة، كان بينها تماثيل لطه حسين وأحمد شوقى وأم كلثوم و محمد عبدالوهاب والفريق عبدالمنعم رياض، وقد وصف الفنان التشكيلى أحمد فؤاد سليم هذه التماثيل بعد نصبها فى أماكنها وقتذاك، بأنها نكبة ثقيلة لفن النحت تستوجب محاسبة مرتكبيها. ومن يتأمل تمثال القائد العسكرى عبدالمنعم رياض فى الميدان الذى يحمل اسمه وسط العاصمة، يكتشف بسهولة وغضب ودون سابق تخصص، عدم التناسق بين مكونات التمثال والتناقض الصارخ بين هندسة أجزائه، فساقا التمثال نحيفتان وهزيلتان ولاتتناغمان مع بقية أجزاء جسده، كما لا تتناسبان مع الهيبة والجلال لأحد قادة العسكرية المصرية العظام!
وقبل أيام أعادت وزيرة الثقافة دكتورة إيناس عبدالدايم الحياة إلى قرار مجلس الوزراء السابق، إذ أكدت بعد متابعة أعمال اللجنة التى أرسلتها لبحث تشوه تمثال الخديو إسماعيل بالإسماعيلية، وترميمه وإعادته إلى أصله، إنها شكلت لجنة دائمة لمراجعة جميع التماثيل التى تجمل الميادين والشوارع الرئيسية فى محافظات الجمهورية، لتطوير الحدائق والميادين على المستويين الجمالى والحضارى للارتقاء بالذوق العام، وهو خبر سار لكل من يؤرقهم الشوق إلى رؤية الجمال فى المجال العام.
عبر عقود، رفعت الدولة يدها عن إقامة مزيد من التماثيل فى الميادين العامة، برغم أهميتها البالغة لانعاش الذاكرة الوطنية للأجيال الجديدة. فعلت ذلك لنقص فى الإمكانات، أو خضوعا لضغوط المتشددين الدينيين، أو للخلافات بين الحقب السياسية المختلفة، والتى أدت – فيما أظن – إلى الإبقاء على ثلاثة تماثيل كبرى للرؤساء جمال عبدالناصر والسادات ومبارك مركونة فى المخازن تنتظر قرارًا سياسيًا شجاعًا بالإفراج عنها. وكان من الطبيعى والحال هكذا، أن يترك الأمر لمبادرات تسيطر عليها بيروقراطية الجهل والقبح وانعدام الموهبة والكفاءة، ولعل قرار وزيرة الثقافة أن يكون بداية لرد الاعتبار للجماليات التشكيلية، التى تنهض بالكفاءات والموهوبين، لا بالموظفين والإداريين فى دواوين الوزارة، إذا كنا حريصن حقا على النهوض بالذوق العام والارتقاء به والتصدى لكل أشكال القبح التى تهاجم حواسنا ليل نهار وتميت الروح وتثقل الوجدان.

التعليقات متوقفه