قضية للمناقشة: نموذج وعالم مفتوح

214

استغرق الجدل حول التفاؤل والتشاؤم وقتا طويلا من النقاش فى اطار ندوة اليوم الواحد حول «نموذج ثقافى عربي جديد فى عالم متحول» التي اعد لها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام مع مؤسسة الفكر العربي.
وكانت مداخلة الباحث والاستاذ الجامعي د. عماد الدين ابو غازي هي التي اطلقت حالة من التشاؤم كاشفة عن الواقع العربي البائس لا فى ميدان الثقافة وحدها وإنما فى بقية الميادين كافة. ووجدت نفسي اذكر المشاركين بالحملة المشهورة للمفكر الاشتراكي الايطالي «انطونيو جرامشي» فى مواجهة تشاؤم الذكاء علينا بتفاؤل الارادة، إذ كان يدعو رفاقه- وهو الذي قضي سنين طويلة فى السجون- يدعوهم الي الابتكار والصمود والعمل الدءوب لتغيير الواقع البائس.
وكانت فكرة النموذج التي قيل انها ترجمة غير دقيقة للمصطلح العلمي «برادايم» موضوعا لنقاش غني وعميق بدورها. اذ رأيت – ووافقني اخرون ان النموذج يمكن ان يحيلنا الي الواحدية وسطوة الاجماع، وعدم الارتياح من ثم للتنوع والتعدد، او وضعهما- اي التنوع والتعدد فى مرتبة ادني تحت عنوان كبير هو النموذج، بينما يتطلع الباحث «فتحي التريكي» احد المشاركين فى اعمال الكتاب السنوي، «افق» الذي اصدرته مؤسسة الفكر العربي الي دراسة كيفية التحول من معقولية التوحيد الي معقولية التنوع فى العلوم والفلسفة والاجتماع. وقد ادت فلسفة التنوع الي تحديث اعماق انماط الحياة فى المجتمعات الغربية التي اصبحت اليوم متعددة ذات اتجاهات مختلفة فى وفرة الخبرات والمعارف والاتجاهات.
وظل ابراهيم عبد المجيد طيلة النقاش مصرا على أن «الوهابية» هي الداء و»الوباء».. وجاءت اضافات مجموعة الباحثات والباحثين المشاركين فى الندوة- وغالبيتهم من مصر مثقلة بهموم الاستبداد، وحصارالمثقف، والدائرة المقطوعة مع الجماهير الواسعة، ورغم جدة، بل واقول عظمة الافكار وغناها، وجد المثقفون انفسهم معزولين فى منابرهم العميقة، عاجزين عن التواصل مع الناس أو تكوين معرفة مباشرة عنهم تغني معارفهم العميقة من الكتب واللقاءات الفكرية. وذكرنا الدكتور وحيد عبد المجيد مدير مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بقصيدة «احمد فؤاد نجم» «يعيش اهل بلدي» والتي غناها الشيخ امام عيسي ساخرا من الانقطاع التام لا فحسب بين المثقفين والشعب، وانما ايضا بين الطبقات.. وبرزت فى النقاش الممتع قضايا رئيسية تبين المشاركون ان بعضها بقي معنا منذ نهاية القرن التاسع عشر، مثل قضية حقوق المرأة، والحريات العامة والاستبداد السياسي والمجتمعي، والانقسام بين المحافظين والمجددين والاصلاح الديني، وتواكب هذا الاستدعاء للقضايا الكبري مع مشاعر عميقة بالمرارة ازاء ما آل اليه الربيع العربي الذي لم يعد المثقفون يذكرونه إلا ويضعون بعده علامة استفهام كبيرة، بعد ان كانوا شأنهم شأن بقية المواطنين قد علقوا عليه امالا كبيرة، الي ان اجهضته قوي الثورة المضادة المتسترة بالدين واطلقت الارهابيين من السجون ليجري افتتاح حالة جديدة من الفوضي والعنف المسلح فى غالبية البلدان العربية.
وسادت بسبب هذا الوضع حالة من جلد الذات، والمحاسبة القاسية للنفس بحثا عن طريق جديد، وامل فى نهضة جديدة، وابعاد اليأس عن المثقف المحاصر حتي يستطيع ان ينهض بدوره فى استخلاص ما ينفعنا، وادراج هذا الاستخلاص فى خطط سياسية واقتصادية وتعليمية حتي لا تكون الافكار مجرد اطروحات نظرية ومثالية يطلقها مثقفون بحثا عن راحة الضمير، او التخلص من الحزن العميق بسبب ما آلت اليه احوال العرب.
ورغم الحذر الشديد لدي المنظمين والمشاركين من الدخول الي منطقة السياسة، الا ان السياسة ظلت معلقة على رؤس الجميع، ذلك ان اهمية الفكر تكمن فى مقدار ممارسته على ارض الواقع، اي فى تحويله الي سياسة، فالسياسة فى نهاية الامر هي ممارسة الافكار، وهذا يعني على حد تعبير الباحثة تهاني سنديان ان الخطاب الثقافى الفكري الجديد هو مشروع سياسي وهكذا نعود الي نقطة البدء لنعاود الانطلاق ان شئنا ان نتقدم.
طرح علينا الدكتور وحيد عبد المجيد فى الجلسة الختامية مجموعة عناوين بهدف ترتيب اولويات المثقفين الحاضرين والمثقفات ازاء المستقبل الذي يتطلع الجميع له، وجاءت الحرية فى المرتبة الاولي حتي قبل العدالة رغم الاحساس الغامر بالظلم، ليتذكر الجميع الاهداف الخمسة لموجات الثورة فى مصر عيش- حرية- عدالة اجتماعية – كرامة انسانية – دولة مدنية، وفى خلفية الجميع ظل الاحساس بالمرارة ثاويا لأن الشعوب العربية وهي تقاوم الاستبداد والتبعية والتخلف مطالبة باحياء هذه الاهداف، والعمل مجددا من اجلها، والحرية هي الهدف الاغلي فى قلوب الجميع، وهي التي سوف تزيح الي الخلف هذا الاحياء الضمني اللاواعي- ربما – لفكرة المستبد العادل، وهي فكرة مازالت تغازل خيال البعض ممن سماهم «عبد الله العروي» التقنيين الذين لم يكن يعنيهم سوي التقدم العلمي والتكنولوجي، وفى سبيل هذا التقدم يمكن تأجيل الحرية لبعض الوقت، وهي فكرة ماتزال تراود السلطات حتي الآن رغم كل ما حدث لنا من جراء المراهنة على الانجازات وحدها مع عزل الناس واستبعاد الحوار ثم تغول الامن خوفا من اي صوت يعلو احتجاجا.
كثيرة هي الندوات وورشات العمل والمؤتمرات التي يعقدها مثقفون ومثقفات فى كل ارجاء الوطن العربي ولكن يبقي هذا الثراء والتنوع كالذي شهدته فى هذه الندوة نادرا، فالمرء يخرج منها محملا بأسئلة أكثر كثيرا من تلك التي جاء بها، وفى هذه الاسئلة اختبار للنزاهة والصدق مع النفس ومع الاخرين، لأنها لا تقترح اجابات جاهزة، ولأن الثقافة هي فى خاتمة المطاف موقف لا مجرد افكار.

التعليقات متوقفه