قضية للمناقشة: وبتحرر الوعى الشعبى

208

تفرض صعوبات الحياة المتزايدة على غالبية المصريين من الفقراء والطبقة الوسطى سؤالا يتردد الآن كثيراً هو : من ياترى المستفيد من مجموعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة وفقاً لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين؟، وهي السياسات التي أفقرت الفقراء ودمرت القطاع الرئيسي من الطبقة الوسطى التي تواصل الإنحدار.
ولا يخمن أحد الإجابة لأن غالبية الجماهير المطحونة تصطدم بها كل يوم فى تفاصيل الحياة، ويتبلور وعي شعبي عفوي تعززه كتابات متخصصة، ورؤى ثاقبة تسير فى عكس الإتجاه الشائع الذي يقول، ولا يمل من التكرار، إن كل شئ على ما يرام، وهو ما يبرز لنا، على خير نحوـ عنيفاً حيث تسيطر طبقة على كل تفاصيل الحياة، ويجرى إخضاع المجتمع لهذه الطبقة دون رحمة، إذ تصبح مصالحها هي الهدف الرئيس للسياسات والفتات للآخرين أي للغالبية.
تقول الباحثة الاقتصادية « سلمى حسين « وهي تقرأ مدى التزام مصر بشروط وتوجهات صندوق النقد الدولي « إن الإجراءات القليلة التي التزمت بها مصر هي فى معظمها إجراءات إما مؤلمة لملايين من المواطنين، أو ضارة بالنشاط الاقتصادي أو تحابي كبار موظفى الحكومة على حساب صغارهم، أو أكثر رحمة بالشرائح الدخلية العليا منها بالشرائح الوسطى والأدنى «.
وتضيف الباحثة أنه « بحسب المتاح فى البيانات يمكننا التوصل إلى أن النمو لا يخدم الفقراء، ولا مضمون الاستدامة،.. كذلك فإن الشركات الكبرى قد أفادت من النمو أكثر من الشركات المتوسطة والصغيرة، التي مازالت تعاني جراء ارتفاع التضخم، ولا تتوقع زيادة فى استثماراتها أو فى عدد موظفيها «.
ولأسباب كثيرة وصلت الباحثة إلى النتيجة المؤلمة وهي « عدم ملاءمة الحوافز الممنوحة للاستثمار لاحتياجات الاقتصادي المصري «.
ولم يتفضل أحد من المسئولين عن وضع السياسات الاقتصادية بالرد على هذه الرؤية المتكاملة للباحثة، والتي ليست إلا غيضاً من فيض كما يقال، فهناك اجتهادات متباينة، ورؤى مختلفة، ومقترحات قدمتها أحزاب، ومراكز أبحاث وعلماء أفراد ونقابات، والمشترك بينها جميعا يقول إنه بوسع البلاد أن تنتهج سياسات أخرى، تتحرر فيها من إملاءات المؤسسات الدولية إسماً والاستعمارية فعلاً وهي إملاءات سبق أن رفضتها بلدان مثل « ماليزيا» وانتهجت سياسات بديلة تستجيب للتطلعات الشعبية، وكانت قصة نجاح « ماليزيا « فى هذا الميدان قصة حقيقية، وعلى العكس تماماً من عملية التسويق الدعائية لما يسمح بالنجاح المصري، وعلى كل حال فإن الطبقة التي تتباهى بالنجاح محقة لأن السياسات تخدم مصالحها.
ما علاقة الوعي الشعبي الذي أخذ ينضج على مهل بهذا الوضع الملتبس والذي يلعب فيه الوعي الزائف دوراً محورياً ؟.
يعلمنا التاريخ أن العنصر العفوي فى الوعي ليس فى الجوهر غير الشكل الأولى لوعي أشمل وأرقى، حيث يتخلص الكادحون تدريجياً من الإيمان القديم بثبات الأوضاع التي تستغلهم دون رحمة، وهم يبلورون فى هذه السيرورة قدرتهم على مقاومة الأوضاع الظالمة.
ومن بعض عاداتنا السيئة الاستعلاء على الفكر النظري وصولا لحد السخرية منه باعتباره « كلام مثقفين « قابعين فى أبراجهم العاجية، وهي واحدة من المسلمات الشائعة ضمن التفاهة المنتشرة، وقد نجح هذا الاستعلاء الممزوج بالسخرية فى إسكات الأصوات الناقدة التي تراجعت عن التأصيل النظري لما يجري، ولم يتوفر للطبقات الشعبية والوسطى مرشد تهتدي به فى رؤيتها للأمور فتراجعت قدرتها على بلورة وعيها فى شكل إيجابي وفاعل، وحدث ذلك ضمن مجموعة من العوامل وعلى رأسها ما كنا قد أسميناه بترسانة القوانين المقيدة للحريات والتي ماتزال قائمة، وهي أوضاع تؤدي كلها، إلى تعطيل التطور الديموقراطي للبلاد، وشل حركة الجماهير المطالبة بحقوقها، وإضعاف قدرتها على الفعالية الإيجابية التي تجعل منها طرفا أساسياً ومشاركا فى رسم السياسات والتوزيع العادل للثروة وللأعباء.
وفى مثل هذه الظروف تتبدد طاقة الوعي الشعبي الذي تبلور عبر المحن ومصاعب الحياة، وتظل هذه الطاقة تبحث عن منافذ للتعبير السلمي متطلعة لنوع من الوفاق المجتمعي العادل.
ولأن مثل هذا الوفاق بات مستحيلا، أصبح المجتمع يشهد نوعاً من الجرائم والممارسات الغريبة عليه، ويحتار علماء الاجتماع والمحللون النفسيون بحثا عن تفسيرات منطقية واقعية ومتماسكة لمثل هذه الممارسات، من الزيادة المضطردة فى معدلات الطلاق، إلى الجرائم البشعة حيث قتل الأم أو الأب، أو الأبناء أو العجائز أو اغتصاب الأطفال.
وتتجنب التفسيرات الشائعة خوفاً أو استسهالا الإحاطة الشاملة بهذه الظواهر ووضعها فى السياق، حيث الأمة المحاصرة المجروحة العاجزة عن التوصل لمخرج أو ملاذ، فتأخذ فى التفكك.
ويثقل مجتمع الاستهلاك السفيه والفاجر أحياناً على ضمائر وقدرات آلاف الأباء والأمهات العاجزين عن تلبية احتياجات الأبناء الذين ينحرف بعضهم بسبب هذا العجز والضعف أمام إغراء الاستهلاك ولا يكفى أن نحلل بعض التشوهات التي لحقت بالشخصية المصرية بالرجوع إلى الأسباب النفسية ومغريات الحداثة والعولمة، ولكن علينا أن نتوقف طويلا أمام هذا الانقسام فى مكانه الصحيح باعتباره عنصراً أساسياً فاعلاً فى كل التشوهات التي لحقت بالشخصية المصرية والمجتمع المصري حيث الأحلام المجهضة، وطاقة الوعي المحاصرة والجهود المضنية لبلورة سياسات جديدة ولا تأبه، السلطة بالانصات أو الحوار، وسنظل ندور فى هذه الدائرة المفرغة، ولكن إلى حين فبعد أن يفعل التراكم فعله، ويستيقظ النائمون والغافلون، ويتحرر الوعي الشعبي الوطني من بقايا الأوهام، سينشأ وضع آخر تمنحه القدرات الشعبية التي كانت معطلة سماته الجوهرية، وحينها سيكون الوفاق والتوازن.

التعليقات متوقفه