«الهوية المصرية» التى يناقشها منتدى شرم الشيخ.. الأعمدة السبعة للشخصية المصرية محور مناقشات المنتدى

386

منذ اكثر من عشرين عاماً و بالتحديد يوم 19 أكتوبر 1998 تسلم د. ميلاد حنا فى احتفال مهيب جائزة «سيمون بوليفار الدولية» التى تمنحها منظمة اليونسbv كو تقديرا و عرفانا بدوره و اسهاماته الفائقة القيمة فى تنمية و ترقية مفاهيم التسامح وقبول الآخر فى مجتمع متعدد الأديان، وعمله الدؤوب لتقوية أوصال المواطنة الطيبة، حسبما جاء فى وثيقة منح الجائزة التى سبق وحصل عليها نيلسون مانديلا محرر جنوب إفريقيا و خوان كارلوس أول ملك ديمقراطي يحكم إسبانيا.أشارت هيئة تحكيم الجائزة فى حيثيات منحها تحديداً إلى كتاب «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» لميلاد حنا واعتبرته عملا فكريا متميزا يدعو للوفاق والوئام فى مجتمع متعدد الأديان.و حسنًا اتخذالقائمون على «منتدى شباب العالم»الذى يعقد «السبت»القادم بشرم الشيخ من كتاب د. ميلاد حنا «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية»محورًا للمناقشات والحوارات التى تدور بين الشباب من مختلف بقاع الأرض خلال جلسات المنتدى الذى يستمر لمدة ثلاثة أيام.
أهمية عقد فاعليات «منتدى الشباب» فى إطار «الأعمدة السبعة» ترجع الى الاستفادة من هذا التجمع لتعريف شباب العالم بالشخصية المصرية و المجتمع المصرى فرصة للتعامل الذى استطاع على مدار عصور طويلة أن يكون مركزاً للتواصل والتفاعل بين الحضارات.كما أن الاعمدة السبعة بأبعادها العربية والأفريقية والأوربية، وارتباطها بالحضارات الأخرى كما جاء بالكتاب تفصيلا، يمثل فرصة للتفاعل والحوار والتعارف بين الشباب من مختلف البلاد والجنسيات حول العالم.لم يدر بخلد و تفكير د. ميلاد حنا عندما تشكلت اللبنات الأولى للكتاب أنه سيصبح بعد عشرين عامًا محط أنظار الجميع خلال «المنتدى» لخصائصه الفريدة والمميزة، وشموله و اتصاله بالحضارات حول العالم. غاية ما كان يصبو إليه الكاتب ويهدف إليه الكتاب هو تدعيم أواصر الوحدة الوطنية فى مصر، وهى القضية التى سعى د. ميلاد لتكريس حياته لها حسبما أوضح فى مقدمة الكتاب.
لحظات الألم
رغم اهتمام د.ميلاد حنا بالوحدة الوطنية وان المصريين نسيج واحد فى وطن يستوعب الجميع فإنه كان أحد ضحايا اعتقالات سبتمبر الشهيرة عام 1981 عندما قرر الرئيس الراحل أنور السادات القبض على 1536 من المفكرين والسياسيين فى أعقاب الأحداث الطائفية فى الزاوية الحمراء فى يونيو من نفس العام.ولانتمائه لتراب هذا الوطن ومصريته الخالصة تشكلت فكرة هذا الكتاب فى لحظات الخلوة مع النفس خلال فترة الاعتقال.بينما هو معتقل بسبب أحداث طائفية إلا أن ذلك لم يدفعه للسخط والتبرم والتطرف بل كان سببا للبحث عما يدعم وحدة المصريين و الغوص تاريخيا وجغرافيا للكشف عن طبيعة الشخصية المصرية في»الأعمدة السبعة». إنها لحظات الألم خلال فترة الاعتقال التى تولد الإبداع وليس النقمة وتشع بالحب وليس البغض.لقد أهدى د. ميلاد حنا كتابه لزوجته الكاتبة الصحفية ايفلين رياض و الى ابنه هانى الذى فضل الحياة فى مصر عن أوربا و أمريكا لإدراكه الكنوز الكامنة داخلها وما تتسم به من علاقات إنسانية و دفء اجتماعى ينشر الشعور بالأمان والطمأنينة.
صياغة مبدعة
تدور الفكرة الرئيسية «للأعمدة السبعة للشخصية المصرية»حول تمتع المصريين بتعدد الانتماءات التى تراكمت لدى كل مصرى عبر الزمان وبتأثير المكان، حيث تأثر المصرى برقائق الحضارات المختلفة التى مرت على مصر. وإذا كانت فكرة الكتاب تشكلت خلال فترة الاعتقال، فإنها تبلورت لتظهر للنور بتأثير كلمات البروفسير تورجنى سيف رئيس جمعية الصداقة المصرية-السويدية خلال زيارة د. ميلاد للسويد وإبداء اعجابه بتخصيص إحدى جزرها لتكون متحفا مفتوحا يصور نمط الحياة فى السويد فى القرن الـ 19، حيث عبر البروفسير السويدى عن شعوره بالعجز والقصور عند المقارنة بين تاريخ وحضارة مصر وتاريخ وحضارة السويد الذى لا يزيد على نحو ألف عام.
وأضاف:أما مصر فهى بحق متحف العالم وأقدم حضارة مدونة عرفتها البشرية مكونة من سلسلة من الرقائق الحضارية بعضها فوق بعض، يقول د. ميلاد:حفرت هذه العبارات فى وجدانى واختزنتها فى عقلى و قلبى وظللت بعدها لا أمل عن ترديد عبارة «أن مصر رقائق من الحضارات».هذه الرقائق التى سماها د. ميلاد «بالأعمدة السبعة» باعتباره فى الاساس مهندسًا انشائيًا أثرت تأثيرا عميقا فى التركيبة النفسية و الاجتماعية للمصري المعاصر، وكيف انه وان بدا أميا و بملابس رقيقة الحال لكنه يحمل فوق كتفيه وبين ضلوعة تراكمات حضارية عبر آلاف السنين.
الأعمدة السبعة أو الانتماءات السبعة تراكمت داخل الشخصية المصرية من خلال رقائق حضارية أدت لصياغة مصرية مبدعة أعطت لمصر مناعة تقاوم الأحداث الطائفية فى الداخل ولا تتأثر بالتيارات الطائفية التى تجتاح المنطقة فى الخارج.لقد مرت مصربأحداث طائفية كفيلة بتفتيت و هدم أى دولة غير أنها لم تتمكن من زعزعة إيمان المصريين بالوطن الواحد و قدرتهم على التماسك لعبور الأزمات.بخلاف العمليات الإرهابية التى استهدفت الأقباط والكنائس طوال فترة التسعينيات من القرن الماضى، شهدت مصر أحداثا طائفية صعبة فى الخانكة عام 1972 وفى الزاوية الحمراء عام 1981 و فى الكشح بسوهاج عام 1999، كلها صفحات أنطوت برغم الألم و الحزن لتظل مصر وطنا يتسع الجميع يقاوم دعاوى التطرف و الفتنة بفعل الأعمدة السبعة الموجودة داخل كل مصرى.
أسرار التماسك الوطنى
ثراء انتماءات المصريين، وتداخل الانتماء القبطى مع الانتماء الاسلامى على أرضية فرعونية مشتركة هى الركيزة الأساسية للمحافظة على نموذج «قبول الآخر». يقول د. ميلاد فى كتابه: من المؤكد أن كل مسلم يعتز بالعمود الاسلامى، لكنه لا يدرك انه يحمل بين ضلوعه قدرا من العمود القبطى بحكم التواجد والمعاشرة والتداخل.
كما أن كل قبطى يعتز بالعمود القبطى وغالبا ما يعتز تلقائيا بسبب التراث والامتداد التاريخى بالعمود الفرعونى، لكنه لا يدرك انه يحمل بين ضلوعه قدرا من العمود الاسلامى وانه يستخدم بالفعل الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث كل يوم فى مجرى الكلام كما أنه بالضرورة متأثر بها.
يعود د. ميلاد ليؤكد اعتزاز المصريين بالانتماء إلى حضارة الفراعنة «العمود الأول» لتكوين الشخصية المصرية» حضارة المصريين القدماء الذين قدموا تراثا انسانيا رائعا و عظيما و فريدا من نوعه.يرى د. ميلاد أن اعتزاز المصرى بأى انتماء مهما كان يجب ألا يجعله يتنكر لجذوره الفرعونية القديمة ولا يشغله عن حقيقة انه من أحفاد و سلالة الفراعنة العظماء الذين شيدوا اول دولة و حكومة مركزية فى التاريخ فى عصر الدولة العتيقة منذ أكثر من 3 آلاف عام قبل الميلاد. غير انه يلاحظ فتور الإحساس لدى كثيرين بالانتماء للجذور الفرعونية بدون أسباب واضحة. بعض هذه الأسباب عرفها د. ميلاد-كما يقول-عندما أصطحب الأستاذ محمد حسنين هيكل لتهنئة البابا شنوده بعيد الميلاد عام 1989، فقد استفسر هيكل عن سبب عدم ذكر اسم «فرعون»الذى كان يحكم مصر وقت خروج بنى إسرائيل منها فى كل من الإنجيل و القرآن.. أجاب البابا بذكاء-كما يذكر د. ميلاد-»لقد كان هذا الفرعون غليظ القلب ونحن فى لغتنا الدارجة نقول اللى مايتسماس ليس لانه لا يحمل اسما ولكن ذلك يحمل ضمنيا عدم الحب أو التقدير وبالتالى ينكر الاسم.فتور الإحساس بالفرعونية لدى البعض لا يقلل ولا ينال- كما يؤكد الكتاب-من أهمية العمود الأول للشخصية المصرية وهو «الحضارة الفرعونية» حيث يعتبر الركيزة الثقافية أى «الأساسات» التى يقف عليها اى مصرى بصرف النظر عن انتمائه الدينى، وهذا أحد أسرار التماسك الوطنى الذى يتمتع به شعب مصر.هذه «الاساسات» المتينة الممتدة الجذور فى أعماق التاريخ مكنت المصريين من مقاومة كافة الأخطار و الأعاصير التى تهب على المنطقة وتثير الحروب والكراهية فى مواقع كثيرة من العالم.
بصمات حضارية
أما العمود الثاني الذى ساهم فى تكوين الشخصية المصرية هو المرحلة أو الحقبة»اليونانية-الرومانية» التى بدأت عام 332 قبل الميلاد بدخول الإسكندر الأكبر مصر إلى أن قام الرومان خلال فترة حكم «كليوبترا» بغزو مصر وأعقب ذلك فترة حكم «اوكتافيوس» بعد انتصاره على أنطونيو عشيق كليوبترا، وصارت مصر ولاية للدولة الرومانية القديمة لسنوات طويلة وهى الفترة التى تداخلت فيها الحقبة الرومانية مع الحقبة القبطية المسيحية.تركت هذه الحقبة بصماتها على تاريخ مصر لتصبح أحد الاعمدة الثقافية فى تكوين خصوصية وثقافة المصريين.
«العمود القبطى» هو العمود الثالث الذى تداخل فى بدايته مع الحقبة»اليونانية-الرومانية» وتداخل فى نهايته مع الحقبة الإسلامية.يشير الكتاب إلى أن استمرار المسيحية القبطية حتى الآن يعطى المشروعية للعمود القبطى ليكون موجوداً و مستمرا و مؤثرا فى التركيبة المصرية حتى الآن. لم تنته الحقبة القبطية مع دخول العرب مصر عام 641 ميلادية.فقد استمرت مصر مسيحية عدة قرون بعد دخول العرب، كما استمرت اللغة القبطية هى اللغة الشعبية السائدة طوال القرنين السابع والثامن، وشاركت فى الحياة اليومية مع اللغة العربية طوال القرنين التاسع والعاشر إلى أن دخل الفاطميون مصر عام 969 ميلادية.
يفرد الكتاب صفحات عديدة لتناول العمود الرابع وهو «حقبة الحضارة الإسلامية» التى أثرت تأثيرا عميقاً فى الشخصية المصرية، وامتد تأثيرها لدول المنطقة بل للعالم كله.اذا كانت مصر بحكم حضارتها ومكانتها وتأثيرها قد ساهمت فى صياغة الفكر المسيحى فى العالم باعتبارها من أوائل الدول التى اعتنقت المسيحية، كان لمصر أيضاً اسهاماتها فى الحضارة والفكر وحتى الفقة الاسلامى.فقد قبلت مصر الفتح الإسلامي مبكرا فى القرن الأول الهجرى، و انفردت عن باقى الدول الإسلامية بإنشاء اول صرح اسلامى فكرى «الأزهر» مع دخول الفاطميين فى القرن العاشر.ظل «الأزهر» نسبة لفاطمة الزهراء مركزاً للفكر الشيعى لنحو 200 عاما إلى أن دخل صلاح الدين الأيوبي مصر وأمر أن يتحول الأزهر لينشر الفكر السنى.بذلك احتوى الأزهر «الفكر الإسلامي» فى مجمله دون تحيز أو تعصب.ولذلك تميزت مصر عن باقى الدول الإسلامية بأن بها اسلاما ذا خصائص ثقافية فريدة، فلا هو «سنى»مصفى ولا هو بالشيعى الزاعق مما جعل التركيبة الشخصية للمسلم المصرى تختلف عن نظيره فى معظم الدول الإسلامية.خلال الحقبة الإسلامية سادت الدولة العثمانية لعدة قرون من القهر الدينى وغير الدينى والظلام بصوره واشكاله كافة لتترك بصماتها على الشخصية المصرية التى لازالت متغلغلة فى وجدان المصرى ويخف تأثيرها تدريجيا مع الزمن.
خصوصية وتفرد
الاعمدة الأربعة السابقة أثرت فى الهوية المصرية تاريخيا، اما الاعمدة الثلاثة الباقية التى تتعلق بانتماءات مصر لمنطقة البحر المتوسط و المنطقة العربية وافريقيا، فقد أثرت فى الشخصية المصرية بحكم الموقع الجغرافى المتميز لمصر فى قلب العالم. فالعمل الخامس وهو «الانتماء العربى» حيث كان سكان شبه الجزيرة العربية على اتصال دائم بشعب مصر منذ زمن يسبق عصر قيام الأسر الفرعونية، كما أن اللغتين المصرية القديمة والعربية من أصول واحدة. أما العمود السادس «الانتماء لحضارة البحر المتوسط»هو انتماء أصيل إذ أن أغلب الحضارات التى مرت على مصر جاءت عبر البحر المتوسط، مما جعل أهالى الاسكندرية و بورسعيد أشبه بسكان أثينا ولارنكا وجنوه ونابولي من حيث التكوين النفسى والعادات والتقاليد.أما دور مصر فى دعم حركات التحرر الوطنى فى أكثر بلدان أفريقيا أثناء فترة حكم جمال عبدالناصر جعل لمصر دورا تاريخياً متاصلا فى القارة السمراء، ليظهر العمود السابع والأخير فى تكوين الشخصية المصرية وهو «الانتماء الافريقى».هذه الأعمدة و الرقائق من الحضارات متصلة و متداخلة تركت بصماتها على الهوية المصرية، وأعطت للشخصية المصرية نكهة خاصة وتفرد غير متكرر أدى إلى استمرار المسيحية القبطية والتعايش بينها وبين الإسلام المصرى.

التعليقات متوقفه