قضية للمناقشة: شخصيات «كريم مروة»

212

يواصل المفكر والكاتب الصديق “ كريم مروة” تقديم كتاباته الممتعة “شخصيات وتواريخ” التي نشر منها ما يزيد على خمسين مقالا فى جريدة “الأهرام” ويسير “مروة” على النهج الذي كان قد بدأه عشرات الرواد والرائدات الذين قدموا من الشام ومن لبنان بخاصة إلى مصر فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ليطلقوا لهم جذوراً جديدة حيث توفرت مساحات أكبر من الحرية الفكرية والمناخات المواتية للإبداع حين كانت المنطقة تقاوم الاستبداد والقهر العثماني تمهيدا للتخلص منه، وكانت مصر فى ذلك الحين قد استقلت نسبياً عن الامبراطورية العثمانية.
اختار “كريم مروة” شخصياته من بين عشرات آخرين أسهم كل منهم بنصيب فى النهضة والتنوير بدءًا بمقاومة الاستعمار الذي جثم على صدور البلدان، وعطل نهضتها، وربما يضع “كريم” على أجندته الطموحة فيما بعد شخصيات أخرى اختارت طريق التعاون مع المستعمرين، وذلك حتى تكتمل الصورة، وتتشكل بهذا الإكتمال ما يمكن أن نسميه كلية اجتماعية نابضة بالحياة، منخرطة فى الصراع، وإذ الكل هو الذي يحدد الأجزاء، وتبرز لنا صورة جديدة للتاريخ تختلف عن تلك التي مازال طلابنا يتعلمونها فى المدارس والجامعات. ففى الغالب الأعم يجري اختزال التاريخ فى سير أفراد أبطال أو أشرار تتحكم إرادتهم فى سير الأحداث وهذه الإرادة هي التي تصنع الوقائع، وتوجه دفة التاريخ.
وتقدم لنا قراءة “كريم” عناصر فهم آخر ما أحوجنا إلى تعلمه واتقانه، إذ التاريخ علم يتطور بارتباط وثيق مع حركة المجتمع القائم وتقدم المعرفة، وتحدد التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية الإطار العام لهذا التقدم.
وينهي علم التاريخ على المعلومات التي لا يجري إنتزاعها كما هو شائع من سياقها للتدليل على موقف هنا أو هناك، بل إنها توضع بقدر الإمكان ضمن هذا السياق مرتبطة بكلية العالم القادمة منه، ذلك أن كل أشكال العالم الموضوعي وظواهره مترابطة، كما أنها متغيرة دائماً وأبداً، وهو التغير الذي يتم فى عصرنا بإيقاع سريع، بل وأسرع من قدرتنا على ملاحقته.. وتضعنا مثل هذه الرؤية للتاريخ على طريق الوصول لخبرة التاريخ الملموسة حيث يتحقق طابعها التعليمي الذي يبين لنا بأبسط الأساليب أن هناك علما تاريخيا دياليكتيكيا لحركة المجتمع ككل.
ولا يستطيع أي محلل أو باحث. نزيه أن ينكر أن الاشتراكية قد ضمنت للتاريخ الأسس العلمية لتطوره كعلم حين قطعت الروابط القديمة بينه وبين الإيديولوجيا، وقيل عند هذه القطيعة العلمية أن “ماركس” قد “ فتح قارة التاريخ “، وبين الدور المحوري الذي تلعبه الجماهير فى صنعه دون أن ينكر أدوار الشخصيات العظيمة، وقد شكل هذا الاكتشاف العلمي حدثاً نظرياً وسياسياً لا مثيل له فى التاريخ الإنساني.. اختار”كريم مروة” الكاتب الإشتراكي عددا من الشخصيات المشهورة على نطاق واسع فى العالم العربي، إختار أن يقدم لنا، ربما لأول مرة، وفى جريدة واسعة الإنتشار، مجموعة من الشخصيات نساء ورجالا فى مجالات مختلفة، لم تكن معروفة، إلا فى المحيط الضيق الذي أنتجت فيه أعمالها، إن فنا أو فكراً، أو إسهاما فى النضال السياسي، ودفع هؤلاء غالباً ثمن خياراتهم برضا واقتناع، ولم يحد أيهم عن الطريق الذي اختاره، وهو ما يجعل منهم أيضا نماذج أخلاقية يمكن أن يقتدي بها هؤلاء الشبان والشابات وهم يتطلعون لإسهام جدي فى نهضة أوطانهم خروجاً من الأنفاق المظلمة للفساد والاستبداد.
ولعل أسماء من قبيل “جعفر الخليلي” و”بندلي جوزي” و”إنجي أفلاطون” و”غانم غباشي” و”آسيا داغر “، و”كامل عياد” و”كامل الجادرجي لعلها أن تفتح شهية باحثات وباحثين شبان ليقدموا المزيد عنها بعد أن شرع لنا “كريم مروة” أبواب مثل هذا البحث.
يتعامل جزءا الكتاب مع شخصيات من كل بلدان الوطن العربي تقريبا، وإن كان المشرق وحده هو الميدان فليتقدم باحثون آخرون للبحث فى أوضاع نساء ورجال اختاروا طرقاً شتى فى بلدان المغرب العربي سعياً للنهوض بأوطانهم.
ويحسب “لكريم مروة” أن أشواقه العروبية سلحته برؤية أكبر من وطنه “لبنان” وجعلته قادرا على التعامل بمهنية مع الواقع الثقافى والاجتماعي لبلدان المشرق العربي التي إختار رموز الثقافة والفكر والنضال السياسي منها.
تلعب مثل هذه الكتابة البسيطة والعميقة فى آن واحد دوراً أساسياً فى تعليم المنهج، وهو الشيء شبه المفقود فى تعليمنا وتعلمنا، وهو ما يثير مجددا أيضا طريقة اختيار الكتب التي تنصح المدارس طلابها بقراءتها، وهي الطريقة التي تحتاج للتأسيس على رؤية جديدة للتعليم، ولعل مايدور الآن من جدل واسع حول تطوير التعليم مناهجي ومعلمين وأدوار للمدارس والأسر فى مصر أن يكون مناسبة لإعادة نظر جدية لا فحسب فى إختيار ما ننصح به الطلاب للقراءة، وإنما أيضا فى ما كنا نسميه فى الماضي حصص الهوايات، والتي كان الهدف منها هو فتح الآفاق الواسعة للثقافة أمام الطلاب لتكوين شخصياتهم على أسس وركائز قوية، وتمكينهم من التعرف على العالم الواسع خارج التخصص الدراسي الضيق مهما كان اتساعه.
وربما تكون مثل هذه الكتب البسيطة والممتعة فى آن بابا لإستعادة الطلاب والطالبات إلى عالم قراءة الكتب الذي هجره معظمهم إلى إغراءات الشبكة العنكبوتية وطرائقها الجديدة.
تحية للكاتب الصديق “كريم مروة”، وفى انتظار ما وعدنا به من شخصيات جديدة.

التعليقات متوقفه