قضية للمناقشة: فى ذكرى العميد

263

كان صباحا خريفيا مشمساً فى نهاية شهر أكتوبر 1973، ومصر لاتزال منتشية بنصرها على العدو الإسرائيلي، رغم بوادر القلق ومئات من المثقفين والسياسيين والطلاب يعبرون كوبري الجامعة خارجين وراء نعش عميد الأدب العربي “طه حسين” قادماً من قلب جامعة القاهرة ملفوفا فى علم مصر، كنا نغني بلادي بلادي، وتسود حالة من الخشوع والحزن العميق مع النظام البالغ الدقة فى مشيتنا وقد تشابكت أيدي الكثيرين، وانخرط آخرون فى بكاء هادئ.
كانت مصر كأنما تودع قطعة منها، تاريخها وثقافتها، معاركها وأحلامها، وفجأة ودون أي مقدمات هجم غرباء على وقار الجنازة الحاشدة، وارتفعت أصواتهم بعنف وعدوانية، وحاول بعضهم خطف الجثمان، وهم يهتفون “الله أكبر” وكأنه إعلان عن فلسفتهم التي ترى فى الدين وطنا، وصولا إلى إعلان مرشدهم العام بعد ذلك بسنوات “طظ فى مصر” ؟ تعبيرا عن احتقار الوطن الذي لامكان له فى تراثهم.
ولم يكتف هؤلاء حينذاك برفع أصواتهم حتى تشوش على نشيدنا الوطني، بل حاولوا إفساد نظام الموكب ومهابته بافتعال مشاجرات مع الذين يؤدون النشيد الوطني، وهم يقتربون بصورة خطيرة من التابوت الذي حمله طلاب من جامعة القاهرة، ونجحوا فعلاً فى إرباك المشهد، مما استدعى تدخل الشرطة والإسراع بفض الموكب.
كان هذا العمل الهمجي امتداداً وتطبيقا لمنهج اتبعته جماعة “الإخوان المسلمين” منذ نشأتها، أن لا تسمح لصوت أن يعلو فوق صوتها، لإنها وحدها تتحدث باسم الإسلام، ولأن كل الآخرين لو رفضوا اتباعها فهم خارجون عن الإسلام، والخارج عن الملة هو مرتد يجوز بل ينبغي قتله، وتشهد على ذلك عمليات الاغتيال المتتالية التي ارتكبوها عبر تاريخهم وحتى الآن.
بدأ الصراع بين الإسلام والحداثة مبكراً منذ ما قبل نشأة “الإخوان” وكتابي الإسلام وأصول الحكم “ لعلي عبد الرازق “ ثم فى الشعر الجاهلي “ لطه حسين “ وحين صدر الكتابان فى الثلث الأول من القرن الماضي تفجر هذا السؤال حول الدين والعلم وحول الإسلام والحداثة وطبيعة الحكم وهي أسئلة لم يتوافق المسلمون ونحن فى بداية القرن الحادي والعشرين على إجابات عقلانية لها، رغم أنهم يمارسون كل أشكال الحياة الحديثة ويستخدمون ما انتجته ثورة العلم والصناعة من أدوات ولكنهم فى الغالب الأعم وفى التيارات الرئيسية فى ثقافتهم المعاصرة يفصلون بين فلسفة العلم ونتائجه، فيستخدمون النتائج ويكفرون الفلسفة، فى تناقض يلازم أشكال تطورهم، ويعطل إطلاق مواهب الأجيال الجديدة منهم، ويصادر حرية الفكر والتعبير والاعتقاد حتى لو نصت عليها الدساتير.
ونذكر هنا أن “طه حسين” خاض بشجاعة معارك الدفاع عن حرية الفكر والاعتقاد والتعبير، داعياً لفصل الدين عن السياسة، وكان واحداً من أشجع المدافعين عن دستور لا ينص على دين للدولة لدى وضع مسودة دستور 1954، وهو ما اسماه الزميل وجيه وهبه بـ”النص الخطر” لأنه كما يرى طه حسين مصدر فرقة، لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين من أهل مصر، وإنما نقول أنه كان مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم.
وانتبه “طه حسين” مبكراً جداً فى 1923 إلى حقيقة أن الإنسان العادي فى مصر لن يكون طرفاً فى صراع من هذا النوع “ فعامة الناس فى مصر منصرفون بطبعهم إلى حياتهم العملية، مستعدون أحسن الاستعداد وأقواه للاتصال بأزمنتهم وأمكنتهم، وللملاءمة بين حياتهم وبين ضرورات التطور”.
لكن إقحام السياسة فى الدين أفسد السياسة وألحق ضرراً بالغاً بالدين، إذ جعل منه ألعوبة فى أيدي جماعات ذات أغراض دنيوية خالصة، تستثمر الدين لتفتيت الأوطان التي لا تؤمن بها، وكثيراً ما تبين للمواطنين العاديين أن مثل هذه الألاعيب حققت أهدافا للطامعين الغرباء، وحين قام الاستعمار بزرع إسرائيل فى منطقتنا على حساب الشعب الفلسطيني استخدم الدين ستارا للعنصرية والعدوان، وأخذت إسرائيل تطالب العالم بالاعتراف بها كدولة يهودية، وعبأت مجلسها التشريعي لإصدار قانون القومية الذي يكرس الفصل العنصري على أساس الدين.
ظل عميد الأدب العربي عبر تاريخه الممتد، ودفاعه المتواصل عن الحريات العامة وبخاصة حرية التعبير والاعتقاد يدعو لفصل الدين عن الدولة وعن السياسة حتى لا يقطع الدمج بينهما الطريق على التقدم، وعلى سعي الشعوب لتكون جزءا فاعلا من حضارة العصر، مساهماً فى إنتاج هذه الحضارة لا مجرد مستهلك لخيراتها، وهو للأسف المآل الذي وصلت إليه غالبية بلدان العالم الإسلامي إلا من رحم ربي.
يظل تراث العميد يحتاج لا فحسب لإعادة قراءة وإنما لاستلهام عميق لأن كل القضايا التي طرحها، والقيم التي أنتجها، والتجربة التي عاشها، والمسيرة العصامية التي قطعها ليصبح مفكراً موسوعياً كبير الشأن عميق الأثر كل هذا الذي أغنى ثقافتنا وحياتنا فى القرن العشرين لا يزال نبعاً فياضاً بالخير مرتكزه الحرية والعقلانية، والعدالة، والنقد أداته الجبارة، والمعرفة التي تطرح الأسئلة والعلم الذي لا وطن له ولا يجوز أن تحده حدود، والبحث الدائم عن الحقيقة واكتشافها حتى لو لم نحبها، وعدم تجنب الملتبس حتى لا يفوتنا ما هو حقيقي الذي هو أعقد كثيرا وأكثر تركيبا من كل تبسيط.
وبوسع الداعين لتجديد الفكر والخطاب الديني، بل الثورة الدينية كما أعلن الرئيس “السيسي” أن ينطلقوا من ما أنجزه “طه حسين” سواء فى قراءته لبعض أحداث التاريخ الإسلامي الكبرى، أو فى آليات التأويل التي اتبعها حتى نرى بالبصيرة لا مجرد البصر إلى أين يتجه العالم فنسير فى اتجاهه متحررين من العبء الثقيل لما هو ميت فى التراث.

التعليقات متوقفه