عاجل للأهمية: قراءة موضوعية لحركة الاحتجاج فى فرنسا

234

اعتذار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للشعب الفرنسي لأنه «جرح البعض من خلال تصريحاته» وإعلانه عن سلسلة إجراءات لتعزيز القدرة الشرائية للمواطنين ورفع الحد الأدنى للأجور بمقدار مائة يورو اعتبارًا من 2019 وإلغاء الضرائب على ساعات العمل الإضافية وعلى بدلات التقاعد لمن يتقاضون أقل من ألفى يورو شهريا، ودعوته أصحاب الأعمال لتخصيص مكافأة لنهاية العام معفاة من الضرائب.. جاء كل ذلك لاحتواء الغضب الذي اجتاح فرنسا منذ منتصف الشهر الماضي.
وقد اعترف «ماكرون» بمسئوليته عن إثارة هذا الغضب وتفهمه لدوافعه وبأنه يتحمل نصيبه من هذه المسئولية، وأن بعض مطالب المتظاهرين مشروعة.
ورغم أن حركة «السترات الصفراء»، التي تولت تفجير المظاهرات فى أنحاء فرنسا منذ منتصف الشهر الماضي، هي حركة تلقائية بدأت فى شكل احتجاجات ضد زيادة الضريبة على أسعار الوقود بنسبة 20%، ورغم أنها لاتنتمي إلى أحزاب سياسية سواء من أقصى اليمين، مثل «التجمع الوطني» بزعامة ماري لوبن أو من اليسار، مثل «فرنسا غير الخانعة» بزعامة جان لوك ميلينشون، كما لا ترتبط بأية نقابات فرنسية قوية، وخاصة الـ CGT (الاتحاد العام للعمل ) أو Farce Ouvriere ( القوة العمالية ).. ورغم أن تلك الاحتجاجات كانت غير سياسية فى البداية، فإنها تحولت خلال ثلاثة أسابيع إلى حركة تطالب بتغييرات هيكلية عديدة، بل وتدعو لاستقالة الرئيس ماكرون، ووضعت فرنسا على طريق المراحل الأولى لحدث درامي.
* * *
كان الغضب قد تراكم عبر عقود من التفاوت الاجتماعي والظلم والاحباط، حتى أن “السترات الصفراء” أدركت بإحساسها الفطري أن العملية الديمقراطية قد ماتت ومن ثم فإن الخيار الوحيد هو احتلال الشوارع، وأصبحت الجمهورية فى خطر.
لقد اعتبر المتظاهرون أن ماكرون هو “رئيس الأغنياء”، وأن الرجل الذي نشأ وتقدم الصفوف من خلال بنك “روتشيلد” عائلة أغنى أغنياء العالم لا يعرف معنى “العدل الاجتماعي”. والدليل على ذلك أن من أولى الإجراءات التي اتخذها بعد أن تولى الرئاسة:
إلغاء الضريبة على ثروات كبار الأغنياء بينما ظل حريصًا على فرض الضرائب تلو الضرائب على ذوى الدخل المحدود للمحافظة على ثروات كبار الأثرياء.
وإذا كان هناك من يريد أن يعرف توجهات هذه “السترات الصفراء”، فإنها تتلخص فى معاداة الرأسمالية والنيوليبرالية.
إنها تعبر عن تمرد المحرومين والمعدمين ضد النخبة، ولا يملك أفرادها سوى حناجرهم.
وليست لديها أجندة ضد الهجرة.. مثلا، ولا تفوح من صفوفها رائحة العنصرية أو الفاشية الجديدة، إنها حركة فضفاضة ومتعددة الوجوه وتشكل إئتلافاً عريضاً، يوحد أفراده السخط والرغبة فى مقاومة عجزهم وتقاعسهم عن التأثير فى الأحداث، إنها حركة تعارض تركيز الثروة والسلطة فى أيدي القلة، ويفترض قطاع منهم مع الانهيار الإيكولوجي الوشيك وانحسار أو تلاشي التنوع البيولوجي أن الرأسمالية فشلت وتقترب من نهايتها.
* * *
والمناقشات والحوارات التي جرت مع أفراد من “السترات الصفراء” تجعلك تشعر بأن همومهم تنحصر فى كمية أو نوع الطعام الذي سيوضع على المائدة فى نهاية الشهر. ويقولون لك إن الأغنياء يتحدثون عن نهاية العالم والفرص الباقية أو المتاحة لبقاء البشرية ومصيرها.. بينما هذا النوع من الحديث.. يبدو كنوع من الترف، بالنسبة لهم، إذا كانت معداتهم خاوية!.
يقول المحلل الفرنسي جيلبير ميرسييه إنه لهذا السبب اعتبر المتظاهرون أن إلغاء الضريبة على الوقود خطوة ضئيلة جداً ومتأخرة جداً، وطالبوا بتغييرات مالية واجتماعية شاملة، مثل إعادة فرض الضريبة على ثروات كبار الأغنياء، ( وهو ما لم يقدم عليه ماكرون فى خطابه مساء الإثنين الماضي الذي اعتذر فيه للشعب، وإن كان قد ألمح إلى أن هذه المسألة ستكون محور نقاش فيما بعد)، كما طالب المتظاهرون بزيادة الحد الأدنى للأجور والمعاشات إلى 1300 يورو شهرياً.
لم يلجأ ماكرون إلى تشديد القمع أو استدعاء الجيش للحفاظ على النظام، والتصدي لانحراف المظاهرات نحو العنف الذي أدانته شخصيات مهمة فى “السترات الصفراء” وكان هذا هو القرار الصائب والحكيم.
وتقول الكاتبة الفرنسية سوزان رام أن الاستفزازات الحكومية بدأت منذ أول شهر أكتوبر الماضي عندما أعلنت الحكومة أنها تعتزم تنفيذ زيادة أخرى فى ضرائب الوقود، وذلك بعد شهور من زيادات سابقة فى هذه الضرائب بحجة أنها تستعد لفرض حظر كامل على مبيعات السيارات التي تعمل بالوقود مع حلول عام 2040.
* * *
ومما يلفت النظر أنه عندما تصاعدت حركة “السترات الصفراء” فى الأيام الأخيرة، بدأت قواعد الاتحاد العام للعمل CGT و”القوة العمالية” تؤيد الحركة، وكان هذا بمثابة جرس إنذار بالنسبة لماكرون.
ويقول عالم الاجتماع الفرنسي “جان ميشيل دنيس” إننا عندما نتحدث عن السترات الصفراء فإننا نتحدث عن أشخاص لم يعتادوا التعبئة والاحتشاد، ولم يشهدوا حشودًا تخفق وتخسر وبين أفراد السترات الصفراء نستطيع أن نرى حرفيين وعمال حراسة بيوت وممرضات متطوعات، وكل أنواع الناس الذين لا يعملون فى شركات مع نقابات قوية، وإنما نرى أشخاصاً يعيشون فى مناطق تعاني أكثر فأكثر من فرص عمل غير مستقرة.
ويبدو من خلال وقائع الأحداث الفرنسية أن أزمات الرأسمالية مستمرة ومتتالية، وأن هناك من يجني أرباح ما ينتج أما الذين ينتجون فإنهم لا يستطيعون التمتع بثروات ما ينتجون، وقد أراد الفرنسيون أن يوجهوا رسالة: أن الدور الاجتماعي للدولة ليس النهب والإفقار، وإنما حماية القوى العاملة وتوفير حياة لائقة وظروف معيشية أفضل لهؤلاء العاملين، ومجرد التذكير بقضية اسمها العدالة الاجتماعية.

التعليقات متوقفه