قضية للمناقشة: من ذاكرة الثورة الفرنسية

221

استدعى متظاهرو السترات الصفراء الذين احتشدوا فى المدن الفرنسية وأساسا فى قلب عاصمتهم الجميلة باريس أقول استدعوا تراث الثورة الفرنسية التي كانت قد افتتحت فى القرن الثامن عشر الطريق الطويل إلى تغيير العالم، وأطلقت فى هذا الافتتاح ثورة الأنوار الثقافية التي سرعان ما انتقلت إلى أوروبا كلها، وهي خارجة من العصور الوسطى تحمل على أكتافها عبء قرون الظلام وسطوة الكنيسة التي سرعان ما أطاحت بها الثورة الثقافية، وتعطش الجماهير للحرية.. انتزع الشعب الفرنسي عبر انتقاضاته وثوراته حقوقا أصبحت راسخة وصولا إلى تأسيس دولة الرفاه الاجتماعي، وبناء المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية التي احتمت بها الجماهير الكادحة ساعية لتطوير حياتها فى ظل هيمنة الرأسمالية بعد أن كانت الأفكار الاشتراكية الكبرى قد وجدت فى تراث التنوير أرضا خصبة للازدهار، وفيما بعد توجت ثورة أكتوبر الاشتراكية بالانتصار نضال الجماهير الروسية، والبلدان التي كونت بعد ذلك الاتحاد السوفيتي ليصبح هذا الأخير القوة العظمى الثانية فى العالم التي تقف على قدم المساواة مع القطب الرأسمالي الأمريكى.. وفى هذا السياق العالمي المواتي حققت الجماهير الفرنسية وجماهير أوروبا الغربية والشمالية مكاسب كبيرة على طريق المساواة والعيش الكريم، ونشأ فى إعطاف هذه المساواة النسبية فكر اجتماعي جديد أطاح بمفهوم «السلطة التي ترى فى الجماهير زمنا أبدياً « مؤكدا ما أثبتته الثورات أن التغيير هو سنة الحياة، وأن الشعب الواعي المنظم قادر على السيطرة على مصيرة، وبناء عالم قائم على التضامن وصيانه الكرامة الإنسانية، ولم تكن مصادفة أن أطلقت الموجة الأولى من الثورة فى مصر أحد الشعارات الأربعة لتكون الكرامة الإنسانية فى تطور مشهود لشعارات الموجات الثورية المتعاقبة فى العصر الحديث منذ ثورتي القاهرة الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية على مصر فى نهاية القرن الثامن عشر.. ركزت الشعارات الأولى والقديمة على مطالب الجلاء والاستقلال، وكأنما كان هناك توافق مجتمعي على تأجيل مؤقت لمقاومة الاستبداد المحلي، ولكن الوعي والمعرفة بما يدور فى العالم فضلا عن عدم الرضا وصولا إلى السخط على انعدام المساواة، كل هذا دفع بمن سماهم المفكر الاشتراكي الفرنسي «بيير بورديو» «منبوذو الدخل.. أو أولئك الذين لا يستطيعون إطلاقا الإمساك بحاضرهم أو مستقبلهم «.. دفعهم إلى التمرد.. وهؤلاء هم تحديدا الذين حملوا فى أعماق وعيهم إرث الثورة الفرنسية « و»كوميونة باريس «، والانتفاضة الطلابية فى 1968 التي أدت فى خاتمة المطاف إلى إزاحة الرئيس الفرنسي شارل ديجول.. وهؤلاء أيضا هم الذين أدركوا مؤخراً أن المؤسسات الديمقراطية، والتي كان أجدادهم وآباؤهم قد كافحوا من أجل بنائها، ولم يبخلوا بأي تضحيات، أدركوا أن هذه المؤسسات من أحزاب وبرلمانات ومؤسسات مجتمع مدني وحكومات أطر كافية ومؤهلة للتعبير عن احتياجاتهم وأولها العيش بكرامة، فخرجوا إلى الشوارع وبشكل تلقائي ثم بدأوا ينظمون أنفسهم، ويبلورون مطالبهم، وعلى رأس هذه المطالب حقهم فى المشاركة العادلة فى الثروة القومية، وقبلها حقهم فى المشاركة فى وضع القوانين واختيار السياسات الاقتصادية والاجتماعية لتمثل هذه الأخيرة مصالح الأغلبية من الكادحين وتتفكك قبضة»الأوليجاركية « أي الأقلية الصغيرة المهيمنة على السلطة والثروة.. وقدمت الشهادات التي بثتها الفضائيات عن السترات الصفراء من فرنسا الجانب المعتم من حياة الفرنسيين الذين يحسدهم كثيرون على رغد العيش والحرية، كما تبين هذه الشهادات فداحة التفاوت بين الذين يملكون والذين لا يملكون، وهو الواقع الذى كان « بورديو « كعالم اجتماع قد درسه جيدا، وبناء عليه أخذ يبحث عن طريقة أخرى « لعمل السياسة « وهو يسجل بعمق وبعد نظر هذا التفاوت الفادح كما ينعكس فى التعليم والذي ألهمه فكرة الطريقة الأخرى التربوية التي تدفع الفرد إلى التمرد على الأسباب الموضوعية التي تصنع بؤسه.. ولأن كل الناس مثقفون وتربويون بطريقتهم كما يقول «جرامشي» فإنهم استخلصوا الأفكار من ممارساتهم وهم يقدمون رداً قويا على كل الذين نظروا ورددوا الفكرة القائلة بان الرأسمالية هي نهاية التاريخ، وها هي جماهير فرنسية عريضة تضم ممثلين للطبقة الوسطى والطبقات الشعبية وبخاصة المهاجرين الذين يعيشون فى الضواحي البائسة ها هي تخرج من العمي الإيديولوجي الذي كان قد فرضه عليها إعلام مزيف وتعليم طبقي، وساسة كدابون ومراوغون وهم بذلك أي الفرنسيون يمدون الخيوط بينهم وبين هذه القطاعات الواسعة من الأمريكيين التي خرجت قبل سنوات إلى حي المال والأعمال فى « نيويورك « رافعة شعار احتلوا « وول ستريت».. ولطالما ظلت مقولة الديمقراطية الاجتماعية وهو المصطلح الذي صكه المنظرون الرأسماليون حتى يتجنبوا الاشتراكية ظلت هذه المقولة تلعب الدور النظري المنوط بها فى الدفاع عن العدالة الاجتماعية وهو ما قرره الميثاق العالمي لحقوق الإنسان حين أصدر اتفاقية الحقوق السياسية والمدنية ثم اتفاقية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية بالتماس لتجنب التشوهات التي تلحق بالديمقراطية السياسية واختزالها فى الانتخابات الدورية.. ثمة حاجة إذن يدركها جيدا نساء ورجال السترات الصفراء، لا يمكن أن نسميه ديمقراطية مكتملة تكون تعبيرا حقيقيا عن احتياجات الملايين لا مجرد زيارة دورية مملة لصناديق الاقتراع، بينما تبقى الأقلية المالكة والمسيطرة سادرة فى مراكمة الثروات، وهي تقبض على مفاصل الدولة، بما فى ذلك دولة الرفاه التي نجحوا فى تحطيمها بعد سقوط المعسكر الاشتراكي،.. لكن تقول لنا السترات الصفراء إن الكادحين قادمون.

التعليقات متوقفه