ضد التيار: السترات الصفراء تحاكم الديمقراطية الغربية

202

قد تأخذ مظاهرات السترات الصفراء فى فرنسا، وغيرها من الدول الأوروبية المتابعين لها والمشاركين فيها، إلى حيث لا يتوقعون. فأخطر ما يمكن أن تترتب عليه تلك المظاهرات التى اقترنت بأعمال حرق وتدمير وتخريب وقتل، أن تكفر جموع المواطنين بأن الديمقراطية الليبرالية، هى أفضل النظم التى توفر للشعوب حياة كريمة، وتضمن لبلادهم استقرارها، وأن تفقد الأمل، فى قدرتها على إرساء قواعد التعدد الحزبى، والفصل بين السلطات وكفالة المساواة والحقوق الاجتماعية والحريات الديمقراطية.
ولعلها لم تعد «نهاية التاريخ» كما قال الأكاديمى الأمريكى فوكوياما، وهو يرصد المشهد العالمى فى أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتى، مبشرا بأن الديمقراطية كنظام حكم قد انتصرت بشكل نهائى، بعد أن لحقت الهزيمة بالشيوعية والملكيات الدستورية الوراثية والفاشية، لتصبح بهذا المعنى الشكل النهائى لنظام الحكم الإنسانى ونهاية التاريخ. وهى نظرية لم تعد تصمد على أقدامها، بعد أن اختزلت النخب الحاكمة النظام الديمقراطى فى مجرد إجراء الانتخابات، والاحتكام إلى مبدأ الأغلبية والأقلية، الذى ساهم فى صعود قوى اليمين العنصرى الفاشى والشعبوى إلى السلطة فى عدد لا يستهان به من الدول الغربية وبينها فرنسا وفى الولايات المتحدة الأمريكية. فضلا عن صعود تيارات الإسلام السياسى الظلا مية فى منطقتنا، بما يعنى أن ذلك النظام بات موضعا للمساءلة، الآن أكثر من أى وقت مضى!
ولعل الجانب الاقتصادى من النظام الليبرالى الديمقراطى، هو أكثر الجوانب محاسبة ومساءلة فى هذا السياق، لارتباطه بشروط النيو ليبرالية التى تم وصفها فى الدول الغربية نفسها بالمتوحشة، ليس لأنها تحقق برامجها بإلغاء مكاسب الرعاية الاجتماعية التى أقرت فى مجتمعاتها منذ عقود فقط، بل أيضا لإلغائها الضرائب على كل أنواع الأرباح الاستثمارية، وفتحها الباب دون مراقبة لحرية السوق، ورفعها يد الدولة نهائيا عن النشاط الاقتصادى.
وتكشف أية قراءة للواقع الاقتصادى للدول الغنية والأخرى النامية والفقيرة، أن الأخذ بتلك البرامج دفع ثمنها الفئات الوسطى ومحدودة الدخل والفقراء،ليسقط هؤلاء فى هوة الفقر ليزداد الأثرياء غنى، بزعم مروجى تلك البرامج، أن ظروف المتضررين منها، سوف تتحسن حين ترتفع معدلات النمو وينمو الاقتصاد بإتساع الاستثمارات، وهو وهم لم يتحقق، ولن يكون بإمكانه أن يتحقق، بدون دور للدولة فى التصنيع والتنمية، ورفع الميزانيات المخصصة للحماية الاجتماعية، وضبط آليات السوق بالمراقبة المستمرة، ووضع نظام عادل للضرائب على الثروة، وفرض المراقبة على التحرك الحر المنفلت لرأس المال، لا سيما بعد أن تكشف دوره المحورى فى تمويل الإرهاب على المستوى الدولى.
فى فرنسا وسع الهوة بين المتظاهرين والحكومة، تطور مطالبها من حقوق اجتماعية، إلى مطالب سياسية، تنطوى بجانب رفض السياسة الاقتصادية، على اعتراض واضح على شكل وطبيعة النخبة الحاكمة. والجمهورية إلى الأمام هى الحركة أو الحزب الذى شكله «ماكرون» عام 2016 ليخوض به فى العام التالى الانتخابات الرئاسية التى فازبها.ويعده كثيرون حزبا ليبراليا وسطيا، فيما يعتبره أخرون لا لون سياسيا له، بل تجمع للنخب المالية الفرنسية.
وخلال فترة حكمه، أهمل ماكرون- من فرط الثقة بالنفس، أو التعالى كما وصفه المتظاهرون- العلاقات مع المنظمات الجماهرية الحزبية والنقابية. وحرص المتظاهرون، على نفى انتمائهم لأية أحزاب أو نقابات، وجاء دعم تلك المنظمات للمظاهرات، بعدما ثبت المتظاهرون أقدامهم، ودفعوا الحكومة إلى التراجع.
وحين دعا ماكرون إلى حوار وطنى مع الأمة، لم يجد غير تلك المنظمات التى ساهم فى إضعافها وزعزعة الثقة بها، لدعوتها للحوار، بعد أن أصبح حزبه وحكومته، تجمعا لمصالح الأغنياء المدافعين باستماتة عن برامج النيوليبرالية بما تقيمه من عزلة بين مصالح جموع المواطنين المادية، وبين سياسات السوق، التى تعظم ثروات النخب السياسية المدافعة عنها. وشكل ضعف الحياة الحزبية التقليدية نقاط ضعف بارزة سوف ينفذ منها خصوم ماكرون لمنازلته، ومن غير المتوقع أن تتوقف المظاهرات بشكل نهائي، مالم تتم خطوات للمراجعة الجذرية لقضية الديمقراطية التمثيلية القائمة على تثبيت الحال على ما هو عليه، والتي باتت الحقوق الاجتماعية غائبة عن أولوياتها.

التعليقات متوقفه