عاجل للأهمية: وداعًا.. محمود توفيق.. حياة حافلة بالتضحيات فى خدمة الوطن والشعب

322

قبل أيام.. فقدنا المناضل التاريخي محمود توفيق بعد حياة حافلة بالمعارك والبطولات والمواجهات.. والاعتقالات.
بدأ حياته العملية محاميًا فى قرية أسرته “زاوية المصلوب” بمركز الواسطى فى الوجه القبلي. ونظرًا لأنه ابن خال البكباشي يوسف منصور صديق بطل ليلة 23 يوليو 1952، والذي يرجع إليه الفضل فى نجاح الثورة كما أنه شقيق زوجة هذا القائد وزوج ابنته الكبرى “سهير”.. فقد تعرض لمتاعب كثيرة.
غير أن معاناة محمود توفيق لم تكن ترجع فقط إلى علاقاته العائلية، وإنما إلى دوره فى حركة النضال الشعبي والمعترك السياسي، فقد كان شخصية بارزة فى “الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني” (حدتو)، وظل طوال حياته مدافعًا عن الحريات السياسية والنقابية والعدالة الاجتماعية ومطالبًا بانصاف الفقراء والكادحين وتحرير الشعوب المستعبدة.
وخلال دراسته بكلية الحقوق، أقام محمود توفيق بصورة دائمة فى ثكنات ضباط الجيش بقشلاقات العباسية مع شقيقته وزوجها يوسف صديق. وخلال دراسته انضم إلى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، وكان يحمل معه إلى المسكن كتبًا سياسية وماركسية، وهي الكتب التي كان لها تأثير قوي ومباشر على شقيقته المناضلة “علية توقيق” التي أصبحت، بدورها، ماركسية وانضمت إلى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، وكرست حياتها للدفاع عن أغلى أمنيات هذا الوطن.
غير أن المسألة لم تقتصر على الكتب، فقد أصبحت غرفة محمود توفيق داخل ثكنات ضباط جيش جلالة الملك هي المكان الذي تطبع فيه المنشورات الثورية التي تدعو إلى تغيير جذري وشامل فى المجتمع المصري. وفى البداية طُبعت المنشورات بطريقة “البالوظة” قبل استخدام مطبعة “الرونيو” فى وقت لاحق.
* * *
وذات يوم، طلب محمود توفيق من يوسف صديق إيواء زميل كفاحه الشاعر الشيوعي، كمال عبد الحليم وإخفائه بعيدا عن ملاحقة البوليس السياسي لفترة من الوقت فى عام 1948. ولم يتردد يوسف صديق فى تلبية طلب محمود توفيق الذي أقام معه لفترات طويلة، وكانت تجمعهما صداقة وثيقة رغم اختلاف السن.
وهذه الصداقة، التي دعمها التوافق الفكري، هي التي دفعت يوسف صديق لإبلاغ محمود توفيق بانضمامه إلى تنظيم ثوري للضباط الأحرار قبل الثورة بأيام، كما دفعته لإبلاغه يوم 22 يوليو وهو فى منزله بحي شبرا بجوار شارع خلوصي بأن الضباط الأحرار سوف يتحركون ليلة نفس اليوم وطلب منه أن يظل معه ولا يفارقه وبأن يصحبه فى طريقه إلى موعد لقاء ينطلق منه للقيام بدوره.
* * *
كانت لدى محمود توفيق أسئلة كثيرة يوجهها ليوسف صديق، لأنه كان متأثرًا بالفكرة العامة التي كانت سائدة فى ذلك الوقت عن دور الولايات المتحدة الأمريكية فى تدبير انقلابات عسكرية لإجهاض الحركات الوطنية الديمقراطية كما حدث عدة مرات فى أمريكا اللاتينية.. وحتى فى سوريا.
ولذلك أخذ محمود توفيق يناقش يوسف صديق محاولاً الاطمئنان إلى صواب برنامج وأهداف الحركة ومدى الثقة التي يوليها يوسف صديق نفسه فى المشاركين فى الحركة من ناحية توجهاتهم الوطنية.
وأدرك محمود توفيق من ردود يوسف صديق أن الثقة بمن يعرفهم فى هذا التنظيم لا تتزعزع، كما أدرك أنه لا يوجد شيء يمكن أن يوقف اندفاعه للمساهمة فى هذه الحركة.. فتمنى له التوفيق وهو يضع يده على قلبه.
كانت الساعة السابعة تقريبًا عندما أخذ الصديقان يسيران على مهل فى شارع خلوصي إلى دوران شبرا، وهناك طلب يوسف صديق من محمود توفيق الانتظار للدخول فى عيادة الدكتور عبدالعزيز الشال الذي كان يعالجه من نزيف الرئة ليأخذ حقنة لوقف النزيف ثم اتجها إلى محطة الاوتوبيس، ونزلا فى ميدان روكسي حيث حضرت سيارة جيش من نوع “بيك أب” ليستقلها يوسف صديق إلى معسكر هايكستيب.. لكي يبدأ تحركه الذي أنقذ الثورة وكان سببًا فى نجاحها، رغم ما يعانيه من نزيف.
* * *
غير أن محمود توفيق دفع بعد ذلك ثمن الخلاف بين البكباشي يوسف صديق ومجلس قيادة الثورة بسبب إصراره على اتباع النهج الديمقراطي.
ففى 16 يناير 1953 فوجئ محمود توفيق فى الساعة الثالثة صباحًا، بضابط مركز الواسطى ومعه عدد من المخبرين يقوم بإبلاغه أنه مكلف باصطحابه إلى البوليس السياسي (مباحث أمن الدولة بعد ذلك) بالقاهرة. ومن هناك تم الزج بمحمود توفيق فى معتقل عين شمس. ولكن “الرحلة” استمرت على ظهر المدمرة “إبراهيم” التي وضعه رجال البوليس السياسي على متنها من السويس لكي يجري نقله إلى معتقل الطور.
كان ذلك فى أيام الغاء دستور 23 ومد فترة الانتقال 3 سنوات. وتم اعتقال محمود توفيق، مرة أخرى، فى سجن مصر العمومي ثم فى السجن الحربي، وبعدها وجد صاحبنا نفسه معتقلا فى عام 1954 إبان هبة مارس التي طالبت بالديمقراطية. والتهمة أنه شيوعي وتم تقديمه لمحكمة “الدجوي” الشهيرة التي أصدرت حكمها عليه بالسجن ثماني سنوات. وتقرر ترحيله إلى معتقل الواحات فى الصحراء الغربية لتمضية مدة العقوبة ( وكان معه فى نفس القضية الكاتب الصحفى المعروف صلاح حافظ ).
وفى عام 1959، فوجئت شقيقته عليه توفيق بمكالمة تليفونية تبلغها بأن شقيقها قد توفى فى الواحات بعد إصابته بالتهاب رئوي حاد، وتحول بيت يوسف صديق إلى مأتم واتصل يوسف صديق بزكريا محيي الدين وأبلغه بالخبر، وبعد فترة عاود زكريا الاتصال ليؤكد ليوسف أن الخبر غير صحيح، وأنه أبلغ جمال عبدالناصر بالواقعة، وأن عبدالناصر قرر الإفراج الصحي عن محمود توفيق، وبالفعل تم الإفراج عنه بعد ست سنوات أمضاها فى معتقل الواحات.
غير أن صحة محمود توفيق تأثرت كثيرًا من جراء الاعتقالات، كان القبض على صاحبنا وسيلة أحيانا لممارسة الضغط على يوسف صديق لكي يتراجع عن مواقفه، كما كان القبض على الزوجة “علية توفيق” عدة مرات لنفس السبب.
غير أنه إنصافا للحقيقة، فإن كلاً من محمود توفيق وشقيقته كانا فى ساحة النضال، فهما من أصحاب المواقف والمبادئ. ولم يتراجع أي منهما عن مواقفه ومبادئه فى أي يوم من الأيام، ولذلك كانا هدفًا للملاحقة البوليسية.
وعلى سبيل المثال، فقد لعب محمود توفيق دورًا رئيسيًّا فى تأسيس”الجبهة الوطنية الديمقراطية” فى عام 1954 ووضع برنامج هذه الجبهة، مما تسبب فى اعتقاله، كذلك كانت “علية توفيق” ترتبط بالحركة الطلابية المناهضة للاستعمار والنظام الملكي والداعية إلى إقامة مجتمع جديد.
وفى يوم 22 يوليو أرسلت إلى كاتب هذه السطور تطلب مني ألا أبيت فى منزلي وأن أتوجه مع بعض زملائي الذين كانوا يقودون الإضرابات للمبيت فى منزلها لكي نقوم بحماية ما سيقع فى اليوم التالي فى الشارع ومع الجماهير، ( تقصد يوم نجاح الثورة فى 23 يوليو). وهو ما حدث بالفعل.
وها هو محمود توفيق يلحق بشقيقته، وتخلو الساحة من مناضلين كانا نموذجين رائعين ومشرفين فى الحركة الوطنية والثورية.. لا يملك المرء إلا أن يحني رأسه احترامًا لتضحياتهما النبيلة وإخلاصهما وتفانيهما فى خدمة الوطن والشعب.

التعليقات متوقفه