قضية للمناقشة: ماسبيرو.. كمان وكمان

3٬167

قرأت الصديقة العزيزة والإعلامية المرموقة «ميرفت رجب» مقالي فى العدد الماضي من «الأهالي» «ماسبيرو منصة قومية» قراءة عميقة وناقدة، وقدمت لي ملاحظات بالغة الأهمية باعتبارها واحدة من أهل بيت الإعلام القومي المصري الذي عملت به إلى أن ترأست التليفزيون لمدة خمسة أشهر ونصف الشهر، وحين أنهكت صحيًّا قال لها طبيبها «أنت وضعت يدك فى عش الدبابير»، وكانت هي قد وضعت رأسها لا يدها كما تقول: كان الفساد شبه المعمم هو السائد.
قدمت لي «ميرفت» مجموعة اقترحات لإدماجها فى كتاباتي اللاحقة عن هذه القضية بالغة الأهمية. هي ترى أن السبب فى التدهور الحاصل فى أداء تليفزيون وإذاعة وإعلام الدولة عامة هم الإعلاميون أنفسهم، فقد ارتفعت أجورهم ارتفاعًا كبيرًا، لكن الغالبية العظمى منهم لم تبذل الجهد الكافى والذاتي والمبادر لمعرفة التطور الذي يجري بسرعة الضوء فى الإعلام العالمي لكي يكونوا قادرين على تطوير أنفسهم وإمكانياتهم بدلا من الاستكانة لحالة الموظف الذي يؤدي عملًا روتينيًّا فى انتظار راتبه آخر الشهر.
وقالت لي «ميرفت» إنها نصحت الكثيرات والكثيرين من زميلاتها وزملائها الإعلاميات والإعلاميين أن يتجهوا إلى أعمال أخرى، ويبقى عملهم فى الإعلام هواية ينجزونها بحب إذ سيكونون فى هذه الحالة قادرين على الابتكار.
وأكدت «ميرفت» أن اقتراحها هذا قابل جداً للتطبيق عملياً رداً على ما كتبته أنا عن مشاعر القلق والإحباط المتفشية بين العاملين والعاملات فى الإعلام الحكومي. وكانت هي نفسها نموذجاً رائعاً للإفلات من واقع بائس بالجهد والإصرار والمثابرة والإخلاص، إضافة إلى مواهبها فأصبحت واحدة من أهم المترجمات الفوريات فى مصر. وهي بذلك تقدم نموذجاً للإفلات الفردي من الظروف السيئة، والانتصار على البيئة المعاكسة سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية، أو حتى شخصية.
وكان مثل هذا الإفلات الفردي ممكناً دائماً، ويذخر التاريخ الإنساني بمثل هذه النماذج، ففى ألمانيا استطاع عامل بسيط أن يصبح مستشاراً بعد أن ناضل فى صفوف النقابات والأحزاب التقدمية هو « فريدريش إيبرت»، وفى البرازيل صعد ماسح الأحذية «لولا داسيلفا» عبر النضال النقابي والحزبي ليصبح رئيساً للبلاد، وفى بلد حارب سكانه لقرون ضد التفرقة العنصرية والتمييز ضد الأمريكيين الإفريقيين السود استطاع رئيس أسود أن يصل إلى الحكم هو « باراك أوباما».
ولكن مالم تتغير البيئة والبنية الاجتماعية الاقتصادية الثقافية تغييرا جذريا سيبقى مثل هذا الصعود الفردي هو الاستثناء لا القاعدة رغم كل الإنجازات الكبيرة غير المنكورة التي يقوم بها هؤلاء المجتهدون الشرفاء وأذكركم فى هذا الصدد بالمسرحية البديعة التي كتبها المسرحي الصديق الراحل «سعد الله ونوس» الملك هو الملك «، والتي أخرجها فى مصر المخرج المبدع مراد منير فى مطلع الثمانينيات ولقيت نجاحاً كبيراً.
وصعود «أبو عزة» الصعلوك إلى سدة السلطة كلعبة أولاً ثم التحول إلى حقيقة بعد ذلك لم ينتشل معه الصعاليك والضائعين والفقراء والجوعي، فقد ظلت البيئة الفاسدة كما هي، حيث التفاوت المتزايد والمحسوبية والقمع والزبائنية والواسطة والتمييز، وهي جميعها عوامل محبطة لأي نهوض جماعي، بل إنها تبدد المواهب والقدرات الإبداعية، وترمي بها فى أحضان اليأس والاكتئاب واللامبالاة.
اقترحت «ميرفت» صيغة رفيعة تعبر عن احترام عميق للديموقراطية ومفعمة بالإيمان بمواهب الشعب حين دعت إلى أن يقوم ماسبيرو بتنظيم مسابقات من أجل البرامج الجديدة خاصة وهو يبدأ حملة للتطوير، ويشارك فى هذه المسابقات كل المهتمين أيا كانت منابعهم الدراسية أو الاجتماعية، فلطالما برهن الناس العاديون أو بعضهم على الأقل على أن لديهم رؤى ثاقبة وأفكارًا خلاقة لكنَّ أحداً لا يستشيرهم رغم أن السلطة ترفع شعار الحوار المجتمعي.. وقد توصلت الهيئة الوطنية للإعلام فى اتفاقية عقدتها مع مجموعة إعلام المصريين وهي مجموعة ترتبط كما يقال بإحدى الجهات الأمنية توصلت إلى ثلاث نقاط رئيسية:
أولها: أن تكون الهيئة صاحبة القرار فى المحتوى بما يتناسب مع خطة الدولة فى التنمية.
والثانية: هو أن يبقى تشغيل العاملين بالاتحاد عاملا أساسياً.
والثالثة: هو عدم الإضرار بمصالح العاملين ومستحقاتهم المالية.
وتحمل بنود هذا الاتفاق رسالة طمأنة للعاملات والعاملين فى الإعلام الحكومي، فإذ يطمئنون على مستقبلهم ورزق أسرهم يمكنهم أن يبدعوا، وأن يتحلوا بشجاعة المقاومة ضد القيود على الحريات استناداً إلى الدستور الذي يشكل لهم دعماً عظيماً، ويدعوهم إلى فتح الآفاق أمام الحوار والتنوع.. بقى أن نتعامل مع شكل الملكية بحثاً عن صيغة يمكن أن تكون عنصرًا محفزًا للتطوير والمشاركة الجماعية للعاملات والعاملين، ونستشف من تعبير التعاون معنى وقيمة ديموقراطية فى العمق يمكن أن تكون عوناً للإعلاميات والإعلاميين إذ تصبح ملكية محطات وقنوات التليفزيون والإذاعة وحتى دور السينما والمسارح والصحف ملكية جماعية وفى هذه الحالة يمكن أن تشارك النقابات والجمعيات الأهلية وحتى الأحزاب والمدارس والجامعات، ومع التقدم فى العمل الجماعي ستقوم هذه المؤسسات بتمويل نفسها شرط أن لا تسمح إدارتها الجماعية بأي فساد، وأن تطبق معايير عادلة وموضوعية تكنس آثار الماضي البغيض حين جرى إغراق هذه المؤسسات والمشاريع فى الفساد والفوضى حيث تعرضت للنهب المنظم.. ربما يكون التعاون خطوة على طريق إقامة بيئة ملائمة للعمل الإعلامي فى بلادنا، ولو اقترنت مثل هذه البيئة الجديدة بالإجتهاد الفردي أيضا سنجد أنفسنا أمام حصاد رائع، وإعلام قومي جديد لا يتحرى سوى الحقيقة حتى يبنى مشروعه الأساسي للتنوير والتثقيف على أساس منها، وهكذا أكون قد وصلت مع صديقتي «ميرفت» إلى نقطة فى المنتصف.
وأخيراً ياعزيزتي «ميرفت» إن خلاف الرأي لا يفسد للود الجميل قضية.

التعليقات متوقفه