ضد التيار: نرفض سياسة فرض الأمر الواقع

349

أطلق المستشار «طارق البشرى» وصف «تأطير الفراغ» على المنظمات السياسية التى أقامتها ثورة 23 يوليو، من هيئة التحرير، إلى الاتحاد القومى، ومنهما إلى الاتحاد الاشتراكى، بمعنى أنها أشكال تدور فى داخلها، لكنها فى الواقع مجرد أطر فارغة، يظن من يدورون فى فلكها أنهم شركاء فى الحياة السياسية التى تدير البلاد، وهم فى الواقع ليسوا كذلك.
تذكرت هذا الوصف البليغ وأنا أتابع باندهاش المحاولات القائمة لتحويل ائتلاف دعم مصر إلى حزب، والمعارك المعلنة وغير المعلنة بينه وبين «مستقبل وطن» لضم نواب وأحزاب، والمنافسة بينهما على حيازة رخصة التحدث باسم النظام. ويتم ذلك تنفيذاً للتوجه الرسمى، الذى تحول إلى قناعة بأن توحد الأحزاب الصغيرة مع بعضها البعض هو الحل للنهوض بالحياة الحزبية. هذا فضلاً عن الحديث الذى بات يروج له بطرق شتى، عن ضرورة وجود حزب للرئيس، كما هو الحال فى الديمقراطيات الغربية.!
وفى علم الحساب نعرف القاعدة التى تقول إن جمع أى عدد من الأصفار هو صفر، أما مقارنة التجربة الديمقراطية العرجاء التى تحبو فى مصر منذ أكثر من ستين عاماً، بما يجرى فى الديمقراطيات الغربية، فهى تدخل فى علم الفهلوة، ولا علاقة لها لا بالديموقراطية ولا بالسياسة، ودمج الأحزاب لن يخرج الحياة الحزبية من ركودها. أما ما هو مؤكد فإن نظام يوليو منذ نشأ وحتى الآن، مروراً بمرحلتى أنور السادات وحسنى مبارك، قد اتخذ من مسألة «تأطير الفراغ» سياسة دائمة: شوية أحزاب محصورة فى مقارها، ممنوعة من النشاط والحركة وسط الناس، تحولت بفعل الحصار والتهميش، إلى مجرد نوادٍ سياسية تُحدِّثُ فيها نفسها، ولم يعد يوجد من مظاهر دالة على وجودها سوى صحيفتى الأهالى والوفد، اللتين ترفض الحكومة مساندتهما، كما تفعل مع الصحف القومية، حتى تواصلا البقاء بكرامة، وتحفظ لهما ماء الوجه لمن يسألها عن التعددية الحزبية الغائبة!
القضية إذن أننا أمام حكومة لا تؤمن بفكرة التعددية الحزبية، وأن خبرتها باتت مركزة فى النمط الذى صار يعرف بنظام الحزب الواحد فى قالب تعددى، وهى خبرة تأطير الفراغ فى شكل تعددى، يجرى التحكم فى مصيره ومساره، والترويج لنظريات من قبيل، أن الطلب على الديمقراطية لدى الجماهير العريضة غير موجود، وأن تحقيق الأمن والاستقرار يتعارض مع الحريات الديمقراطية. وقادت تلك الأفكار التى عفى عليها الزمن، إلى ما نحن فيه الآن: برلمان عاجز عن القدرة على المساءلة والمحاسبة، ويجرى تعديلات دستورية حسب الطلب، دون اعتناء بطرحها لحوار مجتمعى جاد، وبتجاهل تام للأحزاب القائمة، ونظام صحفى وإعلامى يفتقر إلى التنوع والتعدد ولا نبض للحياة فيه، وعزوف نهائى من الشباب الذى يمثل نحو 70% من عدد السكان عن المشاركة فى الحياة الحزبية أو أى قضايا تمس الشأن العام..
ولأن الديمقراطية ممارسة، وليست شعارات، وهى عمل تراكمى يومى، يتقدم خطوة، ويتراجع خطوتين للوراء، كما علمتنا التجارب الغربية الناجحة، وأنه لا ديمقراطية سوى بالتعدد الحزبى الحقيقى لا المتخيل، وأن البديل عن ذلك هو تأطير الفراغ، الذى سمح فى العقود الماضية بتسلل تيار الإسلام السياسى للسيطرة على النقابات المهنية ونوادى هيئات التدريس والجامعات والتغلغل فى معظم مؤسسات الدولة، بما مهد الطريق أمام جماعة الإخوان للحصول على الأغلبية فى الانتخابات العامة، والصعود إلى سدة الحكم، لعام من أسود الأعوام فى تاريخ مصر المعاصر.
فلا تجربوا المجرب، ولا تعيدوا سياسات فرض الأمر الواقع الكارثية،عبر الطريقة المفاجئة والمهينة التى يجرى بها عمل التعديلات الدستورية، وهى سياسات لفظها المصريون فى ثورتين متتاليتين، ولا تستهينوا بفكرة عودة نظام الحزب الواحد مرة أخرى فى قالب تعددى شكلى، بتلك الصورة التى تظهر تكتل “دعم مصر” متحدثا باسم الدولة والنظام.ولا تأطروا الفراغ، الذى تكرسه الاستهانة الرسمية بالحياة الحزبية، لأنه سيأخذنا إلى تمهيد تربة صالحة لتمدد تيارات الإسلام السياسى، وفى المقدمة منها جماعة الإخوان وحلفائها من السلفيين والتيارات الدينية التكفرية، التى تعرقل داخل مجلس النواب وخارجه كل خطوة تفصل بين الدين والسياسة، وتثبت دعائم الدولة المدنية الحديثة.

التعليقات متوقفه