قضية للمناقشة: فلسفة تركيز السلطة

462

تركيز السلطة هو الجانب المخفى لفلسفة التعديلات الدستورية. ولا يحتاج مثل هذا التركيز لجهد كبير لكشفه، لأنه بوسع أي قراءة متأنية لغالبية المواد المقترح تعديلها أن يكشف هذا التوجه بوضوح.. وتركيز السلطة فى ظل حكم التشكيلة الإجتماعية الاقتصادية الرأسمالية يعني بصورة تلقائية تركيز الثروة، وإدامة الانقسام الطبقي وتعميق التفاوت الاجتماعي. ذلك أن حكم الرأسمالية أيا كان الشكل الديموقراطي الذي يصاحبه هو دائماً حكم أقلية.. يقول كاتب أمريكي فى سياق بحثه عن الملامح الفاشية فى حكم «ترمب» إن نظام الحكم الأمريكي هو نظام مختلط أي انه ينطوي على قدر ضئيل من الديموقراطية مع قدر أعظم من تسلط الطغمة.. وحين أخذ يبحث عن خصائص هذه الطغمة، أي الأقلية وصفها بأنها رأسمالية رثة تتكون من أصحاب مليارات جهلة على شاكلة «ترمب» أي أنها ذلك الشكل من أشكال الرأسمالية الذي وصفته أدبيات حزب التجمع بالطفيلية التي لا تعمل على توسيع القاعدة الإنتاجية بل تنهب ما هو قائم منها.. تنهض فلسفة تركيز السلطة على افتراض شائع فى أوساط الطغمة من كبار الملاك، ويقول هذا الافتراض إن الشعب المصري وقواه السياسية والاجتماعية لم ينضج بعد بما فيه الكفاية لممارسة الديموقراطية. وهم بطبيعة الحال ولهذا السبب الزائف يختزلون الديموقراطية فى صندوق الإنتخابات، بالرغم من كل الأفكار والممارسات التي توسعت خلال ما يزيد على القرن فى تعريف الديموقراطية لتشمل حقوقاً كثيرة من أجل العيش الكريم لا يوفرها صندوق الإنتخابات وحده عادة. وتدلنا مطالب السترات الصفراء فى فرنسا التي تجري فيها الانتخابات دورياً فى ظل المنافسة والشفافية والتعدد الحقيقي، تدلنا هذه المطالب على المأزق الكبير للنظام الرأسمالي الذي يفصل عادة بين الإقتصاد والمجتمع.. تقترح التعديلات الدستورية إضافة مادة انتقالية تقول إنه يجوز لرئيس الجمهورية الحالي عقب إنتهاء مدته الحالية إعادة ترشحه على النحو الوارد بمقترح التعديل، وطبقاً للتعديل تصبح الفترة الرئاسية الواحدة ست سنوات بدلا من أربع وبحد أقصى فترتان، وبذلك تنتهي ولاية الرئيس «السيسي» عام 2034 بدلا من عام 2022.. وتشكل هذه المادة وحدها عودة إلى الوراء وكأن الموجات المتعاقبة للثورة لم تحدث. وكانت تجربة بقاء شخص واحد فى الحكم لمدى الحياة قد أفضت لحصاد مر لا فى مصر وحدها، وإنما أيضاً فى كل البلدان التي عرفت نظماً مشابهة، إذ احتمى الفساد بالاستبداد، وماتت الحياة السياسية حين جرى تهميش وإقصاء المعارضين، وإسكات صوت كل القوى الحية فى البلاد، والتوجه تدريجياً لعبادة الشخص وكان ذلك أحد أسباب سقوط الإتحاد السوفييتي.. وتأتي المواد الخاصة بالسلطة القضائية ولعلها تكون الأكثر سفوراً فى التوجه إلى التركيز. إذ ثمة إلحاق ضمني للسلطة القضائية بالسلطة التنفيذية، وإضافة مزيد من القيود عليها. إن طريقة اختيار النائب العام تلزم فى صورتها الحالية ( أن يتولى النيابة العامة نائب عام يختاره مجلس القضاء الأعلى ويصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية).. ويشير المقترح الجديد إلى ( أن يتولى النيابة العامة نائب عام يصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية من بين ثلاثة يرشحهم مجلس القضاء الأعلى).. وتقلص التعديلات صلاحيات مجلس الدولة المنوط به فى النصوص القائمة مراجعة وصياغة كل القوانين، والفصل فى المنازعات الإدارية.. وجاء التعديل المقترح حول (مراجعة وصياغة مشاريع القوانين والقرارات ذات الصلة) ليضيف أي التعديل عبارة (التي تحال إليه). وهو ما يعني أن كلًا من رئيس الجمهورية ومجلس النواب يمكنهما اتخاذ قرارات وإصدار قوانين لا يحق لمجلس الدولة مراجعتها، أو الموافقة عليها.. وللصحفيين المصريين تجربة مريرة مع التدخل الحكومي جنبا إلى جنب حزب الأغلبية فى مجلس النواب حين شكل الصحفيون والإعلاميون لجنة من خمسين عضوا ممثلة لكل التوجهات والمؤسسات على غرار اللجنة التي صاغت دستور 2014، وقامت هذه اللجنة التي اجتمعت بانتظام لعام ونصف العام ببلورة مشاريع لتطوير الصحافة والإعلام، وعرضتها على الحكومة التي قدمت تعديلات وصاغتها، وحين ذهبت المشروعات لمجلس النواب خرجت منه مقصوصة الجناح عاجزة عن تلبية الحدود الدنيا للاحتياجات المشروعة للصحفيين والإعلاميين. وهو بالضبط التوجه الذي يحكم التعديلات الدستورية المقترحة، أي تركيز السلطة وإدامتها، وضمان استمرار وقوة قبضة الأمن على الصحفيين والإعلاميين» وعلى كل القوى الحية فى المجتمع المصري، ويمكننا لذلك ونحن مرتاحون أن نصف الدولة المصرية بالدولة الأمنية. وتجربة صياغة قانون الجمعيات الأهلية هي أكبر دليل.. وتقدم السلطات القائمة مجموعة من التبريرات لهذا السلوك الاستحواذي الإقصائي على رأسها ومن أهمها مقاومة الإرهاب والحد من نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، وهي تقوم بتقييد الحريات الديموقراطية أساساً للحد من هذا النفوذ فى زعمها ودون الإلتفات للمفارقة. إذ سبق أن أنتج مثل هذا التقييد مزيداً من نفوذ الإخوان والجماعات الإرهابية التي أخذت تحرث المجتمع فى العمق من باب الفقر واليأس وتكميم الأفواه.. ولم تنس التعديلات الدستورية المقترحة أن تفرد مساحة أوسع للمنتفعين من فصائل تركيز السلطة والثروة فى توجهات السياسات الاقتصادية القائمة، فقدمت نصاً يعيد إلى الحياة الغرفة الثانية فى البرلمان أي «مجلس الشورى» الذي كانت لجنة الخمسين التي كتبت دستور 2014 قد قامت بإلغائه باعتباره أولاً مُكَلَّفًا للدولة التي تعاني من شح الموارد وزيادة السكان، وثانيًا لأن الزيادة الكبيرة فى أعداد مجلس النواب التي تكفى وتزيد للتدقيق فى كل التشريعات فضلا عن أن هناك الكثير من المؤسسات المعاونة، من مستشاري الرئيس والمجالس القومية المتخصصة. وغيرها وغيرها.. كل هذه المؤسسات تكفى وزيادة.. مجلس الشورى هو إذن هدية السلطات لكل الذين اعتبروا أنفسهم مغضوباً عليهم فللرئيس صلاحية تعيين ثُلث أعضائه، ويبدو المجلس فى الشكل فقط وكأنه توسيع للسلطة، وهو فى الحقيقة توسيع لعملية تركيزها.

التعليقات متوقفه