قضية للمناقشة: من الأول مرة أخرى

746

أخذت شركة الإنتاج الكبرى تبسط نفوذها تدريجيا على العمل الإعلامي حتى تحولت الفضائيات والأرضيات إلى صور ممسوخة من بعضها البعض، بحيث لا يحق لنا أن نشكو أو نتذمر بعد ذلك من انصراف جمهور المشاهدين إلى برامج الإذاعات والقنوات التليفزيونية الأجنبية إلتماساً للحقيقة، فيما يتعلق بالسياسات المصرية إقتصادية واجتماعية إقليمية ودولية.
ويشعر الإعلاميون والإعلاميات والشباب منهم بخاصة .. أنهم يختنقون ويكبلهم الخوف على أرزاقهم بعد أن طال الحصار إعلاميات وإعلاميين كانوا يملأون المشهد ثم جرى استبعادهم وإجبارهم على الصمت، وفى سياق الضراوة التي وصل إليها الصراع الإقليمي بعد إسقاط حكم الإخوان المسلمين فى مصر بثورة شعبية ساندتها القوات المسلحة، لم يعد بوسع هؤلاء المجبرين على الاعتزال والصمت أن يهاجروا لأن ضمائرهم واختيارهم الوطني يمنع عليهم هذا الإختيار.
وأخطر ما يواجهه الإعلاميون الجدد فى هذا الوضع شبه المأساوي هو أضطرارهم للعمل تحت تسلط الخوف، وانعدام الأفق وضيق فرص العمل رغم اتساع المنابر وزيادتها، وكثيرا ما نستمع لشكاوى إعلاميات وإعلاميين لأن منتجاً كبيراً شبه وحيد فى الساحة يسيطر على هذه الساحة ولا يسمح إلا بمنافسة مدروسة وتحت السيطرة لمنتجين لابد أن يبقوا صغاراً دون أي أمل لصعود منتجين جدد فى هذا الميدان الذي كان إلى عهد قريب إمتيازا للمصريين، وتعبيرا قويا عن قدراتهم وثقافتهم التي نضجت عبر زمن طويل .
ويعني الاحتكار باختصار وجود بائع وحيد فى مواجهة العديد من المشترين، بما يمكن هذا البائع الوحيد من السيطرة على الأسعار كيفما يشاء للاستيلاء على دخل المستهلك، وفى حالة الإعلام فهو يسيطر أيضا على المحتوى، فضلا عن أنه يستطيع أن يفرض على المتعاملين معه من فنيين وفنانين شروطه، وإذا لم يلتزموا بها كان الإقصاء والتغييب عن الساحة هو المصير الأسود الذي ينتظرهم.
وعلى الصعيد الاقتصادي العام فإن الاحتكار يؤسس للمرحلة الإمبريالية فى تطور الرأسمالية والتي تأتي بعد مرحلة الرأسمالية القائمة على المنافسة الحرة وهو موضوع آخر.
إن ما يعنينا هنا هو تدخل الدولة، والارتباط الوثيق بين الدولة والاحتكار، إذ تقوم الدولة عبر إحدى أقوى مؤسساتها بتمويل الإنتاج الاحتكاري الكبير صاحب البني الإنتاجية والتوزيعية والتمويلية الضخمة المملوكة للدولة أصلا، والتي ظلت لعقود طويلة أساساً قويا لما طالب به الكثيرون وهو بناء إعلام قومي لا حكومي يتأسس على المهنية وحرية التعبير، ويكون منبراً صادقا لكل القوى الاجتماعية والسياسية فى البلاد .
وما حدث فى الواقع هو العكس تماما من الأهداف التي كان متفقا عليها وطنيا بعد موجات الثورة المتتالية التي تطلعت لتوسيع قاعدة الحريات العامة والمشاركة الفعالة للقوى الاجتماعية المختلفة فى إدارة البلاد وفاء للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والدولة المدنية التي سقط فى سبيلها بعض زهرة شباب الوطن من نساء ورجال .
ونشأ مؤخراً المجلس الأعلى للإعلام، وقد جرى استهلاك كل تحفظات الإعلاميين والصحفيين على طريقة تشكيله وأدائه بعد أن تجاهل القائمون على الأمر الجهود الطويلة والشريفة التي بذلها صحفيون وإعلاميون من كل المشارب والاتجاهات، وقاموا بعرض ناتج عملهم على الحكومة ثم أخذوا بكل ملاحظاتها فى إعادة الصياغة وإذ بمجلس النواب يوافق على قوانين أخرى تماما ويصدرها بسرعة، وكأن الإعلاميين والنقابيين الذي عملوا معا لأكثر من عام لم يفعلوا شيئاً .
وتشكلت لجنة الدراما داخل المجلس الأعلى للإعلام كنتوء منبوذ كما عبر أحد الزملاء ووجد المخرج الفنان “محمد فاضل” رئيس اللجنة نفسه ولجنته زائدين عن الحاجة فقدم استقالته، وعرض المجلس الأعلى “الوظيفة” على الفنان “محمد صبحي” الذي قبلها بشرط أن لا تلعب اللجنة دوراً رقابياً مؤكداً أنه لابد من ضرب احتكار الدراما، وأن وظيفة اللجنة من وجهة نظره هي خلق مناخ صحي وبعد التخلص من الاحتكار لكي يقدم المبدعون أفضل ما لديهم، وإتاحة الفرصة للتنافس الحر والشريف على أن يعلن “محمد صبحي” خطته هذه فى مؤتمر صحفى لطمأنة المبدعين، ووافق المجلس الأعلى للإعلام على مطالب “صبحي” ولكن فوجئ الوسط الفني والإعلامي بإستبعاد “صبحي” فى صمت وتعيين “مجدي لاشين” بدلا منه، ليبقى الأمر على ما هو عليه أي سيطرة الاحتكار، والتقييد الضمني للحريات، والتهديد المضمر لمن لا يلتزم بالسير على الخط المستقيم الذي حددته الشركة الوحيدة الكبرى المسيطرة، والتي تجر خلفها الشركات الصغيرة التي بقيت عاملة فى الساحة والمستعدة لتقديم أي تنازلات مقابل حق البقاء على قيد الحياة.
ولايحق لأحد بعد أن وصلنا إلى هذا الوضع المحزن أن يشكو من انصراف الجمهور تدريجياً عن الإعلام المصري، ويتحمل المثقفون ومؤسساتهم على نحو خاص بعض المسؤولية عن هذا الوضع رغم كل الجهود التي بذلوها للحيلولة دون الوصول إليه، وهم أيضا الذين سوف يتحملون بعض أفدح النتائج، فمحاصرة حرية التعبير إن بالاحتكار أو الرقابة أو “ الاستزلام “ على حد تعبير إخوتنا الشوام سوف ينعكس لافحسب على قدراتهم وإنما أيضا على أرزاق غالبية منهم، كانوا قد راهنوا على موجات الثورة، ووضعوا ثقتهم فى الوعي الجمعي للمصريين ليجدوا الإحباط والضياع فى إنتظارهم، وعليهم أن يكافحوا مجددا، من الأول مرة أخرى .

التعليقات متوقفه