“ما باحت به ساره”.. عندما يصطدم الواقع المطلق بالشعارات الحالمة لمجتمعات قَدَرِيّةِ

774

“كان التحدث عن هذا البلد نوعًا من المحرم، إذا ما جرؤ أحد وتحدث عنها فكأنه يتكلم على غول رابض، وراء الحدود مستعد للانقضاض باستمرار.. وكانت إمه على كل حال لكي تردعه عن ارتكاب الحماقات الصبيانية تقول له سأستدعي “الغول” أو سأرسلك عند “اليهود”، أعدائنا الألداء، لكي يعاقبوك”. هكذا يبدأ الكاتب والطبيب اللبناني محمد طعان روايته “ما باحت به ساره” والتي تدور أحداثها حول قصة حب تنشأ بين شاب فلسطيني لاجئ، ناصري التوجه حتى النخاع، ويعمل طبيبًا في مدينة الرباط المغربية، وشابة يهودية قادتها أيضَا الظروف السياسية بعد طرد أسرتها من الجزائر، للعمل بنفس المدينة التي يعمل بها الطبيب الفلسطيني الثائر.


بطل روايتنا يُدعى “طارقًا” والذي نشأ في مخيم الرشيدية للاجئين الفلسطينيين جنوب مدينة صور اللبنانية، حيث بدأت حياته في هذا المخيم في عام النكبة 1948 تلك الحرب التي شهدت الهزيمة الأولى للجيوش العربية، وولادة إسرائيل. وعندما أصبح طارق في سن الإدراك أخبره والده -والذي كان يحلم مرارًا بالعودة للوطن فلسطين- القصة كاملة. لكن يموت الوالد حزنًا وحنينًا بعد أن كان يتغنى بالعودة لأرضه ويجمع حوله أشقائه اللاجئين ويحثهم على التمسك بأمل العودة.
ففي كل مساء كان يجتمع “أبو طارق” بجيرانه وأصدقائه بالمخيم يستمعون للخطب الرنانة للزعيم الراحل “جمال عبدالناصر” عبر الإذاعات، وكان “ناصر” يعتبره العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيين زعيمًا للأمة والدول العربية أجمع، وكان أملهم في التحرر خاصةَ بعد قرار تأميم قناة السويس كخطوة أولى لتحرير بلادهم من المحتل.
في سن مبكرة جدًا يبدأ “طارق” في التعلق بالزعيم وتكون البداية عندما يكتشف تشابه الملامح بين “ناصر” وبين والده. وقد تسنى لطارق أن يرى “ناصر” في 1958 أبان الوحدة بين مصر وسوريا، لأول وأخر مرة في دمشق مع والدته وعدد من أصدقاء أسرته في المخيم. وتستمر حياة طارق مع والدته بعد وفاة والده وشقيقته في المخيم، ويقرر الانضمام لكلية الطب لخدمة هؤلاء الفقراء الذين يموتون لعدم إسعافهم لغياب الأطباء، وهو المشهد الذي وقع أمام عينيه داخل مستشفى المخيم بموت أحد الأطفال اللاجئين بعد إصابته بالسل.
يأخذنا الكاتب بشكل أكثر تفصيلًا حول طريقة حياة اللاجئين ومعاناتهم، عندما سارعت منظمة الأمم المتحدة إلى تأسيس “الأونروا” لتتحمل مسؤولية مليون فلسطيني لاجئ بين لبنان وسوريا والأردن.
تبدأ رحلة “طارق” العملية في مدينة الرباط المغربية، ولم ينسى طبيبنا الصور والأشرطة المسجلة لـ”ناصر” وخطاباته الوطنية عن العروبة والاشتراكية، مواجهة الأمية، الاكتفاء الذاتي، التحرر من المحتل، والعدالة الاجتماعية.. إلخ ويبدأ بالتعرف على “ساره” رئيس قسم التنسيق بالمستشفى التي يعمل بها والمسؤولة اجتماعية أيضًا، تتطور علاقتهما، ويجد البطل في بطلته الرفيقة والصديقة التي يتبادل معها الحديث حول الوطن والوحدة العربية ومعاناة شعبه وأطفال وطنه الذين قتلوا تحت القذائف وتشتيتهم بين مخيمات الدول هنا وهناك.. وفي المقابل تحدثه رفيقته اليهودية عن طفولتها في بيشار الجزائرية والتي عاشت فيها أجمل سنوات عمرها، وكيف رحلوا لفرنسا مرغمين ومطرودين، بعد أن كانت الحياة بينهم وبين الجزائريين متشاركة، وعن معاناة مأساة الأطفال اليهود اللذين قتلوا في المعسكرات النازية.. ومن والإحساس المشترك بالحنين للوطن والأرض؛ نشأت علاقة حب وطيدة بين الطرفان وكما وصفها الكاتب نصًا: عندما مسكت “ساره” بيد حبيبها “طارق” قائلة: “بين الفرات والنيل يوجد مكان للجميع، عربًا ويهودًا”.
وفي غربته أيضًا نشأت علاقة صداقة وود بين “طارق” و”جميل” ذلك الشاب السوري المسيحي الذي يعمل بالرباط مدرسًا، ويلتقي الطرفان ليالي طويلة يتحدثون عن معاناة الأمة العربية ويحاول جميل الشد من أزَر صديقه إلى أن يصطدما الطرفان بالواقع الأكثر مرارة وتذهب طموحاتهم بعيدًا جدًا عما تأملوه سابقًا.
ما نقرأه في الروايات السياسية وما نسمعه في الخطب السياسية خاصة لو كان الخطيب بارع في انتقاء مصطلحاته ويملك شعبية جارفة ليس في دولته وإنما في دول عدة مشتركة في صفات عدة، عكس ما نراه في الواقع تمامًا، وهذا ما يكشفه الكاتب في روايته متعجبًا: كيف سيطرت الروح الانهزامية والتسليم بالقدرية عند أغلبية شعب “المغرب”، وهنا لم يقصد الرباط وحده، إنما الدول العربية عامًة وكنموذج لها تلك البقعة الواقعة أقصى غرب إفريقيا. إلى أن يصطدم “طارق” الذي قرر أن منذ زمن بعيد النضال لأجل الأطفال الفقراء وإنقاذهم، بأطفال “إرفود” اللذين يسبحون مع ديدان البلهارسيا التي تقتلهم يوميًا دون حراك من الحاكم ومسؤولو المدينة المستسلمون تمامًا أو حتى توعية أهلها بدون تكلفة مادية، يصطدم أيضَا بعادات وتقاليد الأمة العربية المطلقة.. فكيف إذن لهؤلاء الأناس أن يكونوا علامة مبشرة للوحدة العربية التي يحلم بها هذا الشاب الناصري!.
بموت الطفل “أحمد” مريض البلهارسيا لعدم توافر الدواء اللازم لحالته، يدخل “طارق” نفق انهزامي واستنكار للذل والبؤس الذي تعيشه الأمة العربية في ظل ثروات دولها الكبيرة، فكيف يموت أطفالهم مستسلمين؟ وكيف يعيشون تحت رحمة أدوية الغرب! وبعدما يفشل الطبيب في الحصول على “الأمبيلار” لعلاج “البلهارسيا” ويصطدم بالواقع القدري والبائس أكثر وأكثر يُقرر السفر في رحلة قصيرة مع رفيقته “ساره” إلى بيشار الجزائر. وينهي الكاتب روايته في الفصل الـ11، تتلاقي أفكار البطل ورفيقته في الطريق؛ كلًا منهم يحن لوطنه، عربًا ويهودًا. وعلى الحدود الجزائرية المغربية يجتمع المسلمون واليهود حول ضريح سيدنا “يحيى” حيث يرفع الجميع صلواتهم وطلباتهم لله الواحد.
لكن بسبب خطأ في التأشيرة لم يستطع طارق الدخول إلى الجزائر! فهذا الشاب الناصري إبن فلسطين لم يفكر يومًا أن دخوله لأرض عربية أخرى يتطلب تأشيرة!.
صدر للمؤلف محمد طعان ستة كتب سابقة وتحول من كاتب سيناريو إلى كاتب روائي، منها “لاجئي بيشاور” و”نوستالجيا”، “سيد بغداد”، وصدرت “ما باحت به ساره” في 2011 عن دار البيروني، اللبنانية، والراوية منقسمة لـ11 فصل، في 183 صفحة.

التعليقات متوقفه