نحن بشر

800

حين تري هذا الفيلم،لابد وان تأخذك الدهشة،بل العجب،فما أشبه الماضي بالحاضر فى مصر،وما اكثر المآسي التي تعرض لها هذا الشعب،ولا يزال يحاول حلها،مثل الفقر، وزيادة نسل الفقراء،وقصص أولاد الشوارع،وحتي قصور مستشفيات الحكومة،وعجزها،وصولا الي بخل الاغنياء ورجال الاعمال
لم ينس فيلم «نحن بشر » الإشارة اليها،وهو الذي انتج عام ١٩٥٥،اي منذ ٦٣عاما بالتمام والكمال،بواسطة الممثل الكبير محمود المليجي،احد كبار الموهوبين المظلومين فى تاريخ السينما المصرية،والذي وضعه المخرجون دائما فى أدوار الشر قبل ان نري وجهه الآخر،الاكثر عمقا،من خلال يوسف شاهين فى «الارض»،ويبدو ان الاستمرار الطويل فى ادوار الشر هو ما دفع محمود المليجي للإنتاج لنفسه من خلال شركة اطلق عليها«أفلام النجم الفضي »أنتجت تسعة أفلام، بداية بهذا الفيلم الذي يوجه رسائل شديدة الاهمية الي الجميع، ولكن بأسلوب سينما تلك الايام وقدراتها الفنية،ولابد ان هذه الرسائل بالاضافة للحبكة والبناء الدرامي كانت سببا فى تعدد اسماء مؤلفى«نحن بشر»، امل عبد السلام، أبراهيم الورداني ثم محمد مصطفى سامي،ثلاثتهم كتبوا القصة و السيناريو والحوار،بينما اخرج الفيلم ابراهيم عمار، صوره أمبرتو لانزايو ومسعود عيسي، قام أميل بحري بالمونتاچ، جانب اسم عباس حلمي انه منفذ مناظر، ولَم يكن هناك اسم لفنان الموسيقي التصويرية، انما اسماء من كتبوا كلمات اغنيات بطلة الفيلم هدي سلطان، من وضعوا الألحان،مع ذكر إهداء محمد عبد الوهاب لحن أغنيتها الشهيرة «وجع الهوي تاني».
ربيع يبحث عن وظيفة
برغم ان الفيلم يبدأ بلقطات بائسة لأولاد الشوارع وعلي وجوههم وفِي عيونهم، الهلاهيل على أجسادهم،كل بؤس الحياة،الا ان المخرج لم يكتف بالصورة، زاد عليها بصوت معلق يصف ما نراه ويقدمه، على امتداد الفيلم يستمر المعلق فى وصف ما نراه لدرجة تدفعنا للدهشة من الإصرار على تجاهل تأثير الصورة،وتضخيم الصوت فى عمل فني ينتمي للصورة اساسا،غير اننا للأمانة سوف نلاحظ ان المعلق يظهر فى الأوقات التي تحتاج من المشاهد لتأملها او لتوقف أمامها، خاصة مع تغير حالة البطل«ربيع» او المليجي بعد خروجه من الإصلاحية التي دخلها بعد سنوات من الإجرام، سبقتها سنوات من تعلم فنون السرقة على يد احد المعلمين الذي انتشل ربيع وصديقيه بكر وهندي «حين عيسي وفتوح نشاطي» من الشارع موهما اياهم بأنه مندوب العناية الإلهية لحمايتهم ودعمهم، قبل ان يتضح انه صاحب مؤسسة لتعليم الإجرام، ومن جريمة لاخري يقع الجميع فى يد الشرطة،ويقضون سنوات فى السجون والإصلاحيات قبل ان يخرجوا، ويتفرقوا ويبحث كل منهم عن نفسه، والفيلم هنا يركز أساسا على «ربيع» ويتركنا نتابع صديقيه من خلاله، ومن هنا حين يحفى الاول فى البحث عن عمل شريف، «يركز الفيلم على فزع اصحاب الاعمال ومعاملتهم السيئة لربيع حين يعرفون ماضيه او يرون شهادة خروجه من الاصلاحية وهو نفس ما يحدث حتي اليوم» يتوسط له الصديقان للعمل معهما عند هانيا «هدي سلطان» الجميلة التي تدير شقتها للعب القمار، «كانا يحميانها،اي بودي جاردز» لنعرف انه موهوب فى اللعب،وقادر على كسب القادمين للمكسب،وهنا يضعنا السيناريو امام بطل،جاء من عالم الجريمة،ويمتلك مهارات التفوق فيها،إلا انه يمتلك وعيا بالخير والشر فى عالمه، ويسعي بكل ما يقدر للابتعاد، فيرفض مشاعر «هانيا» التي يعمل عندها مع صديقيه، ويحاول البحث عن عمل آخر،ويتزوج من مغنية جديدة ترفض مثله حياة الليل «درية أحمد »، وينجب طفلا يصبح كل حياته،وحين يمرض يتحول الي أب مكلوم يجري به الي المستشفى العام لعلاجه،وتخبره مديرة المستشفى «الممثلة الكبيرة علوية جميل » بأن ابنه يحتاج الي أجهزة وعلاجات غير متوافرة !. ويعود الي المكان الذي هرب منه شقة هانيا للقمار، ويخبرهم انها لا تكفى فى زمن أختلف،وان عليهم «اي هانيا وصديقيه» تطوير المشروع ليصبح ناديا كبيرا للقمار يجتذب صفوة الأغنياء والمغامرين، ويعود للمستشفى فيجد «رزق»ابنه قد فارق الحياة، ويبكي الأمل فى حياة اخري تبعده عن الفساد،ويعود الي الكازينو ليقود المقامرين،وبينهم واحد بادره بالعداء، لكنه حين خسر كل أمواله، انهار وبكي «قام بالدور الممثل القدير حسن البارودي» وقال لربيع «لقد خسرت مهر ابنتي وكنت اتمني زيادته لأجل فرش شقتها» يثور ربيع عليه وسط الناس ويهدده، ويأخذه للخروج،لكنه يدخله الي غرفة بالمكان، ويعيد اليه نقوده طالبا منه الا يعود من جديد للعب القمار،وهكذا يدخلنا الفيلم الي الصراع الداخلي للبطل،خاصة،حين يزداد تردده على المستشفي، وما يعرفه من المديرة عن ضعف امكانياتها المتزايدة بسبب قلة التبرعات،ورفض الاغنياء لعمل الخير، ويقرر ان يحول اليها كل ما يحصل عليه من العمل فى النادي،ويسعد للحظات وهو يسمع عن تأثير هذا، ويقبض عليه بتهمة قتل «هانيا» بتدبير من بكر، صديق عمره الذي احبها ولكنها احبت ربيع، وتأتي البراءة على يد من فعل به الخير سابقا، وليصبح عنوان الفيلم دليلا على كل المواقف التي قدمها،وعلي رسالته الاهم لمشاهديه،وهي انه حتي المجرمون يحتاجون الي «معاهدة سلام» أولية إذا كانت « الظروف» هي السبب،مثل ربيع،وأننا حين نرفض عمل هؤلاء فإننا نلقيهم الي اي عمل ضد القانون،ستة عقود مرت على إنتاجه، بواسطة أبرع من قدم ادوار الشر فى السينما، وما زالت قضايا ابناء الشوارع قائمة،صحيح ان هناك فرقا من وزارة التضامن الاجتماعي للبحث عنهم الان ولكن، ماذا بعد هذه الخطوة ؟. وبعد أيام الإصلاحية وسنينها؟. وهل تغيرت نظرة المجتمع وأسلوب معاملته لمن تربي فى أحضان الحكومة؟ أسئلة عديدة قدمها الفيلم لا زالت مطروحة فى واقعنا بعد كل تلك السنوات،والفضل لفنان كبير موهوب، دفعته أدواره الي البحث عما وراءها. والحقيقة ان السينما المصرية تحتاج لإعادة مشاهدة لاستعادة كل ما طرحته عن المجتمع المصري على مدي يزيد عن قرن من الزمان.

التعليقات متوقفه