قضية للمناقشة: حصانة المجتمع التونسى

420

كان الحبيب بورقيبة مدرسة خاصة فى القيادة والسياسة، واختط منهجاً تربويا هو نتاج تجربته وثقافته وتعليمه، هدف إلى تغيير المجتمع التونسي، وتطويره على أسس مبتكرة وتحديثية دون قطيعة مرتحلة مع مكونات المجتمع.. وكان يكرر إن التقدم يبدأ بتغيير الأدمغة عبر التعليم، والتطوير الاقتصادي، وتحرير المرأة، وتجاوز التكوينات الضيقة التي تعرقل الاندماج الوطني الشامل، كذلك هو شخصية ليبرالية تؤمن بالعلمانية، وبالدولة المدنية.
تكررت هذا الأفكار فى كتابات السياسيين والمفكرين العرب فى رثاء الرئيس التونسي “الباجي قائد السبسي” الذي ودعه الشعب التونسي قبل أيام.
ورغم المخاطر التي يشكلها حزب النهضة وهو الجناح التونسي للإخوان المسلمين ومشروعهم لإقامة دولة دينية لتصبح مرتكزاً لاستعادة ما فقدوه فى مصر بعد ثورة 30 يونيه 2013 التي أزاحت حكمهم بعد أن احتشد المصريون رافعين شعار يسقط حكم المرشد، أقول رغم هذا كله، ورغم السعار التركي والقطري جريا وراء حلم استعادة الخلافة لتركيا، والبحث عن دور قيادي لقطر فى المحيط العربي، رغم ذلك كله فإن ما يشابه الإجماع بين الساسة والمحللين حول صلابة وتماسك المجتمع التونسي الحديث، وهو ما يشكل حائط صد متينًا ضد المشروع الرجعي الذي يرفع شعارات دينية، لن يسمح للظلامية بالعبور.
ولم تأت هذه الصلابة وهذا التماسك فى المجتمع التونسي بالمصادفة أو من الفراغ، بل هما نتاج كفاح طويل ممتد، وإصرار قيادة بورقيبة ومعاونيه رجالا ونساء شاركوا فى تحرير البلاد من الاستعمار، وشرعوا على التو فى وضعها على طريق الحداثة، وفى القلب من ملحمة التحرر والتمدن برزت قضايا النساء ليصدر فى الخمسينيات من القرن الماضي، قانون أحوال شخصية هو الأجرأ والأكثر إنصافا للنساء ومعاملتهن كمواطنات فى العالمين العربي والإسلامي، وبعد أكثر من ستين عاماً من صدور “مدونة” الأحوال الشخصية التي حافظت عليها النساء جاء الرئيس السبسي ليواصل العمل على نفس المنوال والمنهج، ويساوي بين الرجل والمرأة فى الميراث، ويقر بحق المرأة فى الزواج برجل من غير دينها، وينتصر ومعه نساء تونس ورجالها وسياسيوها المستنيرون على المد الرجعي المعادي للنساء وللحريات العامة بقيادة حزب النهضة وبهذه المناسبة فإن مفكرين مصريين مثل محمد أحمد خلف الله، وخليل عبدالكريم، ونصر حامد أبو زيد، بلوروا أفكاراً مشابهة وأدتها الرجعية.
تعلمنا التجربة التونسية أن تحرر المرأة وحصولها على حقوقها كافة كمواطنة هي قوة دفع جبارة للمجتمع كله لا للنساء فقط، وقد إعتاد الذين يرون فى تحرر المرأة خطراً على المجتمع أن يكون المجتمع المستقر فى نظرهم هو الذي يخضع للسيادة الذكورية التي تراعي “المقامات” كما يقولون، وإذ لا يحق للنساء أن يكن أنداداً للرجال وهم يلجأوون لتأكيد هذه السيادة الذكورية إلى النصوص الدينية وإلى الأعراف والتقاليد ويختارون عادة من كل هذا الإرث ما يدعم الوضع القائم، ويعطي شرعية للقراءة الحرفية للنصوص خارج سياستها وزمنها.
ولم تتم الخطوات التحديثية والعلمانية التي أبعدت الدين عن السياسة فى “تونس” دون صراع عنيف، إذ تجاوزت الخطوات حقوق النساء وحرياتهن إلى المجتمع كله مدفوعة أساساً بطاقات النساء، وبشجاعة مثقفين تطلعوا إلى التجربة الفرنسية فى تحرر المجتمع، دون أن يتحولوا كما حدث مع آخرين إلى أبواق للسياسة الفرنسية، لأنهم أدركوا منذ البداية أن الفروق العميقة بين الحضارة و الاستعمار، وإختاروا الحضارة، وساعدهم الغرب فى فرنسا جنباً إلى جنب توجهات واختيارات البورقيبيين لإنجاز أدوارهم. وكان لسان حالهم يقول مع “طه حسين” لابد لنا أن نعرف جيداً إلى أين يتجه العالم، ونسير إلى هناك، وغني عن البيان أن العالم فى مرحلة التحرر من الاستعمار كان يتجه إلى التخلص من كل أشكال العبودية، من عبودية الماضي إلى عبودية الأفكار والقيم الإستعمارية والعنصرية، وهو يئن تحت وطأة الإستغلال العنيف، ويحدوه الأمل العظيم فى القضاء على كل ما يعطل طاقاته ويستنزف موارده التي سبق أن نزحها الاستعماريون فى بلدان الجنوب مثلما إستعبدوا أبناء أفريقيا وبناتها لبناء الامبراطورية الأمريكية.
دخلت “تونس” الصغيرة العظيمة فى هذا المظهر بكامل يقظتها، فبلورت رغم الآلام والانقسام الطبقي وقوى الظلام الذي كان صعودها فى العالم كله عملاً إمبرياليا مخططا بعناية، بلورت سماتها وشخصيتها القومية بلداّ حديثاً علمانياً لا يقطع مع الدين ومع الموروث، وإنما يتعامل معه بروح نقدية أصبحت لعمق تجذرها كأنها الفطرة.
واستطاعت تونس بهذه المقومات واعتمادا على تعليم متقدم ونقدي، وصل إلى إقرار منهج الأديان المقارن، مع الابتعاد مبكراً عن الحفظ والتلقين، ووقف تغول القوى الرجعية فى المدارس باسم الدين، وهو البرنامج الطموح الذي استهدف بناء مواطن يشكل بنفسه نظرته النقدية للعالم، ورؤيته للعلاقات الإجتماعية والإنسانية، وشأن المجتمعات العربية الأخرى لعب الفساد والاستبداد أدواراً مدمرة، ولكن الحصانة الذاتية التي كونها المجتمع التونسي استطاعت أن تحميه من التفكك، ومن الهجوم الظلامي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين عبر حزب النهضة.. وقدمت تجربة تونس الفريدة فى العالم العربي درساً كبيراً وعميقاً لكل الذين يحاربون الإرهابيين ويتجاهلون الإرهاب فى حقيقته وجذوره الإجتماعية والتربوية والثقافية عامة، فلا يكفى أن نرفع شعار تجديد الفكر الديني دون حفر عميق فى المجتمع وتحصينه على أسس نقدية وعقلانية دون التعامل تحت أي مسمى سياسي أو عملي مع القوى الظلامية.
صحيح أن الرئيس الراحل “الباجي قائد السبسي” اختار فى أول حكمه لتونس أن يعمل مع حزب النهضة ولكنه وحين تكشفت له خبايا تنظيماتهم السرية والمسلحة لم يتورع عن فض الحلف طول سنين حكمه واصل مناصرة النساء والحريات العامة متسقا مع رؤيته ومبادئه وأفكاره العلمانية التي ضربت بجذور عميقة فى المجتمع التونسي فحمته حتى الآن من جيوش الظلام.
رحم الله “الباجي قائد السبسي”

التعليقات متوقفه