“بوتين”.. عشرون عاماً فى حكم روسيا

أعاد لروسيا الاحترام كقوة على الساحة الدولية وقضى على الإرهاب..حافظ على وحدة وسلامة الأراضى الروسية بعد أن كادت تلقى مصير الاتحاد السوفيتى..حقق إنجازات اقتصادية مشهودة.. ولأول مرة ظهرت طبقة متوسطة فى المجتمع الروسى

654

*بقلم د.نبيل رشوان:

مر هذا الشهر عشرون عاماً على وجود الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على رأس السلطة فى روسيا، جرت مياه كثيرة وتغيرت أوضاع كثيرة سواء فى روسيا والعالم، اختلف الخبراء والمفكرون سواء فى روسيا أو العالم فى تقييم إنجازات وإخفاقات الرئيس الروسى.
ففى يوم 9 أغسطس علم 1999 قام الرئيس السابق بوريس يلتسين بتعيين رجل المخابرات الروسية فلاديمير بوتين قائماً بأعمال رئيس وزراء روسيا، وفى اليوم نفسه أعلنه الرئيس يلتسين خليفة له فى حكم روسيا، لم ينتظر الشعب الروسى كثيراً، فقد أعلن الرئيس يلتسين عن استقالته قبل نهاية فترته الرئاسية يوم 31 ديسمبر 1999 .
وفى مارس عام 2000 تم انتخاب بوتين رئيساً لروسيا. وكان الرئيس يلتسين قد رشح فلاديمير بوتين لخلافته قائلاً “إنه سيستطيع توحيد المجتمع ويؤمن استمرارية الإصلاحات”، وعندما اتضحت الصورة أمام الغرب وتأكدت مسألة خلافة بوتين ليلتسين فى رئاسة روسيا ضرب الغرب الأخماس فى الأسداس، وتساءل الخبراء بعبارة مازال يتردد صداها إلى اليوم عندما تتخذ روسيا موقفا معاديا وهى “من هو بوتين؟”. هذا هو ما يجيب عنه باقى المقال.
حرب الشيشان الثانية
جاء الرئيس بوتين إلى السلطة على موجة حرب الشيشان الثانية، عندما قام الإرهابيون بقيادة شاميل باسايف الإرهابى الشيشانى الأشهر فى روسيا وحليفه الأردنى خطّاب باجتياح جمهورية داغستان ذات الحكم الذاتى والمجاورة للشيشان، التى وقعت معها روسيا اتفاقية بعد حرب طويلة نسبياً، حصلت بمقتضاها جمهورية الشيشان تقريباً على الاستقلال، وهو ما كان يهدد الاتحاد الروسى برمته بالتفكك، حيث ظهرت مطالب لبعض أعضاء الفيدرالية الروسية بتوسيع الصلاحيات الممنوحة لها على غرار الشيشان.
تمكنت القوات الروسية من كسر مقاومة المقاتلين فى داغستان، لكن الحرب كانت أبعد ما تكون عن نهايتها، فقد بدأ الإرهابيون فى تفجير المنازل على ساكنيها فى قلب العاصمة الروسية موسكو. وحدثت مآس أخرى على مستوى روسيا بمساحتها الضخمة، فقد تعرضت الغواصة كورسك لحادث غرق ومصرع عدد كبير من البحارة الروس، ثم العملية الإرهابية فى بصلان حيث قام الإرهابيون باقتحام إحدى المدراس فى أول يوم دراسة وقتلوا عددا كبيرا من الأطفال، ثم اقتحام أحد المسارح فى قلب العاصمة موسكو، وهو ما أدى إلى مقتل الكثير من رواد المسرح، وكان تعامل بوتين مع هذه العملية الإرهابية يتسم بالحسم الشديد رغم الخسائر الكبيرة إلا أنه رفض الخضوع لمطالب الإرهاب.
سياسية فى الداخل الروسى
بالتوازى مع حرب الرئيس بوتين والجبهة المفتوحة مع الإرهابيين فى الشيشان، خاض الرئيس الروسى حربا سياسية فى الداخل الروسى، وأرسل رسالة لخصومه فى الداخل ليدركوا من أصبح صاحب السلطة فى البلاد، أول الضحايا فى هذا الإطار كان ميخائيل خودوركوفسكى الملياردير وصاحب شركة يوكوس للنفط، الذى سجن وتم العفو عنه وهاجر إلى المانيا ويعارض الآن من الخارج، وسبقه العديد من المليارديرات مثل بيرزوفسكى الذى توفى فى بريطانيا وجوسينسكى صاحب مجموعة قنوات إن تى فى وغيرها، وبذلك سيطر الرئيس الروسى على الأوضاع داخل البلاد.
خلال الفترة الأولى من حلول القرن 21 بدأت روسيا تشعر بالنمو الاقتصادى، بفضل مواردها الضخمة من النفط والغاز، حيث بلغ سعر برميل النفط ما يقارب 130 دولارا للبرميل الواحد (تنتج روسيا ما بين 10 ـ 11 مليون برميل يومياً)، ونسب النجاح الاقتصادى لبوتين، وظهر كزعيم ضرورة لا بديل عنه.
بوتين رئيسا للوزراء
وفى عام 2008، ووفق الدستور الروسى لا يحق للرئيس المكوث فى السلطة لأكثر من فترتين، ترك بوتين منصبه، رغم نصيحة الرئيس الكازاخستانى آنذاك نور سلطان نازاربايف بالبقاء، لكن لكى يعود للسلطة من جديد بعد مدة رئاسية شغل فيها منصب رئيس الوزراء، بينما قام رئيس وزرائه دميترى ميدفيديف بتولى الرئاسة لمدة أربع سنوات، لكن هذه المرة ليس لمدة أربع سنوات بل لست سنوات، بعدما قام ميدفيديف بإجراء تعديل على الدستور لجعل مدة الرئاسة ست سنوات.
استطاعت روسيا تخطى الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2012، والصمود بفضل سياسة بوتين، رغم تباطؤ النمو، ورغم ذلك استمرت شعبية بوتين مرتفعة على خلفية ثوارات الربيع العربى وما أدت إليه من قلاقل وحروب سواء فى ليببا أو سوريا أو اليمن، وصلت شعبية بوتين للقمة بعد الثورة فى أوكرانيا وإعادة شبه جزيرة القرم للسيادة الروسية، فقد كان الناخبون الروس ينتظرون عودة القرم لأحضان الوطن الأم، ورغم الهجوم الغربى على روسيا نتيجة لذلك، إلا أن هذا كان يصب فى مصلحة الرئيس بوتين وزاد من شعبيته، واعتبر الشعب الروسى أن الرئيس بوتين يسير على الطريق الصحيح.
الاقتصاد والسياسة
لكن وكما يقول الخبراء إن النجاح الكبير الذى حققه الرئيس بوتين فى السياسة الخارجية، انعكس سلباً على الاقتصاد، حيث ساءت الأحوال الاقتصادية فى الداخل الروسى، وساعد على هذا العقوبات التى فرضها الغرب على روسيا بعد استعادتها للقرم، كما أن انهيار أسعار النفط ألقى بظلاله على الاقتصاد الروسى. ورغم ذلك وبدون مفاجآت فاز الرئيس الروسى فى الانتخابات الرئاسية عام 2018، وبأغلبية قياسية وأكبر من السنوات الماضية، على خلفية استعادة القرم لأحضان روسيا.
ورغم أن شعبية بوتين فى الوقت الحالى لا تقاس بما كانت عليه عام 2018، إلا أن الرئيس بوتين مازال أمامه حوالى خمس سنوات، كما أن هذه هى الفترة الأخيرة لحكمه، سيتجاوز بعدها السبعين عاماً، حيث تقدر شعبيته حالياً وفق مركز ليفادا الروسى لقياس استطلاعات الرأى تصل شعبيته 54%، وهى نسبة تعتبر مرتفعة بمقاييس الغرب.
وجهات نظر
وللحديث عن بوتين وطريقة تفكيره سأستعين بكتابات المناوئين لبوتين من الغرب، يقول الكاتب السياسى الأمريكى توماس جراهام، عندما وصل بوتين إلى السلطة جعل نصب عينيه مهمة رئيسية وهى إعادة روسيا لوضع الدولة العظمى، وحاول بقدر المستطاع أن تكون روسيا إحدى الدول القليلة، التى تحدد توجهات السياسة الدولية فى العالم، وسعى بوتين لأن يصل إلى وضع لبلاده بحيث لا يمكن حل أى مشكلة كونية بدون روسيا، وبالفعل حقق نجاحاً كبيراً فى هذا الاتجاه.
أما أنجيلا ستينت، فيرى أن بوتين أراد أن تتبوأ روسيا مكانتها على الساحة الدولية، وتشير أنجيلا إلى أن بوتين يسعى لأن تتصرف الولايات المتحدة مع روسيا كما كانت تتصرف مع الاتحاد السوفيتى من حيث الاحترام والرهبة.
وتضيف الباحثة الأمريكية إن هذا يعنى أن تعترف الولايات المتحدة بروسيا كدولة عظمى وتأخذ مصالحها بعين الاعتبار، أو على الأقل فى أحسن الأحوال، يريد الرئيس بوتين خلق نظام ثلاثى على غرار ما تم فى مؤتمر يالطا إبان الحرب العالمية الثانية، تقوم بمقتضاه الولايات المتحدة وروسيا والصين بتقسيم العالم بينها إلى مناطق نفوذ.
أما الداهية هنرى كيسنجر وشيخ الدبلوماسية العالمية، فيرى فى مقال بمجلة “الأمن القومى” إن نظرة بوتين للسياسة الدولية متطابقة مع نظرة الأديب الروسى العبقرى دستويفسكى، والمثال على ذلك حديث هذا الأخير عام 1880، ودعوته الملحة لبعث عظمة الروح الروسية، المعتمدة على روح الشخصية الروسية، وهو ما التقطه بالفعل الكاتب السوفيتى المنشق وصاحب نوبل الكسندر سولجنتسين، بعد عودته لروسيا من فيرمونت حيث كان فى المنفى، فقد دعى إلى إنقاذ الشعب الروسى الذى تم التضييق عليه فى روسيا، على نفس المنوال تحدث بوتين منتقداً مواقف الغرب من روسيا والتى يحاول ردعها منذ 300 سنة، كما وصف كيسنجر الرئيس بوتين بأنه على ارتباط داخلى عميق بالتاريخ الروسى، وهو ينتمى بحسابات هادئة للمصالح القومية الروسية.
إنجازات 20 عامًا.
مهما كانت الآراء التى قيلت فى الرئيس بوتين وطريقة تسييره للأمور فى روسيا على مدى العشرين عاماً الماضية فيمكن تلخيص إنجازات الرئيس الروسى فى الآتى: ـ
1 ـ أولاً حافظ على وحدة وسلامة الأراضى الروسية، بل استرد بعض ما كان ضائعاً منها فى زحمة المنظومة السوفيتية القرم مثالاً. ونذكر أن الحفاظ على وحدة وسلامة أراضى دولة فى حجم روسيا مسألة ليست سهلة فى ظل الفوضى التى كانت تعم البلاد فى عصر يلتسين.
2 ـ استطاع ورغم الضغط الغربى الشديد أن يعيد روسيا إلى الساحة الدولية، وجعلها دولة يعمل حسابها فى كل الملفات الدولية تقريباً.
3 ـ انتهج سياسة اقتصادية ضمدت جراح مواطنيه بعد إصلاحات اقتصادية هى الأعنف ربما فى تاريخ البشرية، ولم يكتف بذلك فقط بل خلق طبقة وسطى تعتمد عليها روسيا فى جر قاطرة المجتمع خلفها.
4 ـ يسعى الرئيس الروسى ألا ينجر إلى سباق تسلح وحرب باردة مع الغرب رغم الاستفزازات الغربية له، وفى نفس الوقت يطور سلاحه لجعل روسيا دولة قادرة على حماية نفسها، وفى نفس الوقت يحاول درأ خطورة اقتراب الناتو من حدوده أكثر مما هو حالياً فخاض حرباً فى جورجيا عام 2008، ويخوض حرباً باردة لمنع أوكرانيا من الانضمام للناتو، وهو ما سيجعل الناتو فى خاصرة روسيا مباشرة، كما فى حال انضمام جورجيا فى شمال القوقاز برميل البارود الروسى القابل للانفجار.
5 ـ لقد تغير وجه روسيا من دولة تمرح فيها العصابات واللصوص إلى دولة تنظم كأس العالم بالطريقة التى شاهدها وأشاد بها العالم، لقد كان التنظيم يوحى بأن روسيا تغيرت وقطعت كل علاقة لها بفوضى ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتى.
ورغم إنجازات الرئيس بوتين الكثيرة والاستراتيجية إلا أن روسيا دولة يعتمد اقتصادها على تصدير النفط والغاز بالدرجة الأولى، وهذا عيب خطير ويواجه بتحديات انخفاض الأسعار والمنافسة على السوق الأوروبى والصين أكبر مستهلكى الطاقة العديد من الدول وحتى الولايات المتحدة تحاول منافسة روسيا فى هذا المجال، وهو ما حذر منه المستشرق الروسى يفجينى بريماكوف مراراً (الاعتماد على تصدير مصادر الطاقة فقط) فى كتاباته قبيل وفاته خاصة فى كتابه “أفكار بصوت عال” والذى ترجم تحت عنوان “روسيا والتحديات الصعبة والصادر عن دار الهلال.

التعليقات متوقفه