بدايات الرحلة..  وعظماء الوطن

326

*محمود حامد

ويصبح حقاً واجباً أن أعلن سعادتى وأنا أرى شباب «الأهالى» يقودون دفة العمل، تحت قيادة الزميلة والصديقة أمينة النقاش.. الآن يطمئن قلبى فـ«الأهالى» باقية ما بقى الزمان.. هنيئاً للقيادات الجديدة وهنيئاً لحزبنا.. وندخل فيما نريد قوله.

*****

ما رأيكم دام فضلكم.. لو عدنا إلى الوراء قليلاً (أو كثيراً فالمسائل نسبية وليست جامدة جمود الثلج في عز الشتاء)

سنوات طويلة ومواقف عديدة لكن الذكريات تظل محفورة في القلب والعقل والوجدان على مر الزمان.. بدأت الرحلة في إبريل 1976، هناك في مبنى الاتحاد الاشتراكى، قبل أن يتحول إلى أفرع لبنوك كثيرة، حتى أتت عليه نيران 25 يناير 2011..حيث الطابق التاسع المخصص لمنبر التجمع آنذاك، وكان اللقاء مع الدكتور رفعت السعيد، وهو اللقاء الثانى بعد أن توجهت لمقابلته دون موعد مسبق فى مكتبه بجريدة «الأهرام»، كأحد أعمدة مجلة الطليعة في ذلك الوقت.

جلست أمامه شاباً حديث التخرج دون أن أنطق بكلمة.. لم أتصور، وقتها، أن ألتقى بكاتب مرموق واسم لامع فى عالم الصحافة، وله كتاباته المهمة وأبحاثه التى أحدثت ضجة فى المجتمع، ومنها دراسته عن القوى البرجوازية وعلاقتها بثوار يوليو، والتى أعدها من خلال البحث والتنقيب بين السطور فى صفحة الوفيات.

وحتى هذه اللحظة، ورغم مرور أكثر من 43 عامًا على اللقاء الأول، فإننى لا أعرف السر وراء اختيارى «رفعت السعيد» من بين أسرة تحرير «الطليعة» لأتحدث معه عن رغبتى في الانضمام للتجمع، لكنها كيمياء العلاقات الإنسانية التى لا يدركها كثيرون.. ومضى بنا قطار التجمع مع القائد الحزبى المرموق.. رمانة الميزان فى حزب التجمع.. أيقونة اليسار المصرى.. خبير العمل التنظيمى الذى لا يشق له غبار.. المفكر الواعى بأولويات العمل السياسى.. الباحث المدقق فى مجالاتٍ عدة.. الإنسان بكل معنى الكلمة وتجلياتها ومعانيها.. وغير ذلك كثير.. اختلفنا واتفقنا، تعاركنا كثيرًا لكنه كان دائمًا السباق إلى التسامح والسمو عن الصغائر والحرص على الاحتواء، سواء بالنسبة لى أو لغيرى من شباب الحزب.

*****
هناك في الطابق التاسع من المبنى الذى ذهب واحترق مع ثورة يناير، كانت بدايات عمل متواصل في مواجهة ذلك الذى كان يكرهنا الرئيس الراحل أنور السادات، وهناك أيضاً بدأنا نتعرف على الوجه الإنسانى لعضو مجلس قيادة الثورة مؤسس التجمع القائد والزعيم خالد محيى الدين.. هادئاً مبتسم الوجه دائماً ينشر التفاؤل بيننا رغم «أحلك الظروف»، يقود سفينة التجمع كأمهر ربانٍ عرفته البشرية، رغم اختلاف مشارب قادة الحزب فقد نجح في تجميعهم في بوتقة واحدة فانصهر الجميع في حب الوطن والتفانى من أجل رفعته والنهوض بشعبه والسعى لتحقيق أحلامه في وطن حر وبيت سعيد ومياه نظيفة وتعليم جيد وعلاج متكامل.

*****

ماذا أقول؟ وقد كنا شباباً سعيد الحظ أن رأى عمالقة الوطنية في مصر وتعلم منهم وشرب من مناهجهم؟ والأسماء كثيرة لكننى أبداً لن أنسى ماحييت أستاذى حسين فهمى وتعلمت منه كتابة الخبر في جمل قصيرة للغاية ليصل المعنى المراد بسرعة البرق إلى القارىء.. لن أنسى أستاذى أبو سيف يوسف فقد كان يأتى ليلقى السلام بصوته الخفيض ثم يجلس إلى مكتبه ويعكف لعدة ساعات، كشاب في العشرين، على إعداد أسئلة وطلبات إحاطة واستجوابات، ليتولى نواب الحزب طرحها في البرلمان.

*****

ماهذا الرجل يا سادة؟.. كل هذا العلم وكل هذه الثقافة وكل هذا التواضع؟.. إنه موسوعة تمشى على الأرض وليس في ذلك أدنى مبالغة.. لن أنسى الدكتور إسماعيل صبرى عبدالله بعلمه الغزير ومناقشاته الثرية التى أفادتنا كثيراً (بالمناسبة: كان يكتب عموداً في «الأهالى» بعنوان «ألفاظ ومعان» وكان حريصاً أن يكتب اسمه مجرداً بدون لقبه العلمى رغم أنه حاصل على الدكتوراه بالفعل، وقمة من قمم مصر العالية.. مازلت أتذكر له تلك المناظرة الشهيرة في نادى أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة.. قبل الانتخابات البرلمانية في منتصف الثمانينيات، كلفنى رئيس تحرير «الأهالى» أستاذى حسين عبدالرازق بتغطية المناظرة.. ذهبت فإذا الحشد كبير والزحام شديد رغم اتساع المكان، وبدأت المناظرة فإذا عددٌ من الوزراء وكبار المسئولين يصعدون إلى المنصة كممثلين عن الحزب الوطنى، ويصعد فقط إسماعيل صبرى عبدالله منفرداً كممثل عن الحزب التجمع.. يومها وضعت يدى على قلبى وسألت نفسى: ماذا سيفعل الدكتور وسط كل هؤلاء؟.

ولأن الحزب الوطنى هو الحزب الحاكم فكانت الكلمة تُعطى أولاً لممثله.. وتكلم د.مصطفى كمال حلمى وزير التعليم آنذاك فعرض عدد المدارس التى  أنشأتها الحكومة وأخذ «يعدد كل الأعداد» في كل مجالات التعليم، وجاء الدور على ممثل حزب التجمع.. كم هو عظيم حزبنا فبعد كل هذه السنوات مازالت كلماته ترن في أذنى.. بكل ثقة قال الدكتور إسماعيل: في حزبنا نؤمن بالبشر لا بالحجر.. في حزبنا نسعى لنعرف ماذا علمنا أولادنا وكيف نزرع فيهم الثقة ليشبوا على البحث والتفكير والاستنباط وليس الحفظ والتلقين.. في حزبنا نؤمن أن بناء المدارس حق للشعب ومن فلوس الشعب وليس مناً من الحكومة، في حزبنا….إلخ).. ودوت القاعة بتصفيق منقطع النظير، جعل سكان العمارات المجاورة في شارع عكاشة بالدقى يهرولون إلى البلكونات ليعرفوا سر هذا التصفيق الهادر.

هل من مزيد؟ نعم اسمحوا لى أن أعرض أمام الأجيال الجديدة أكثر وأكثر من تلك المناظرة.. فقد وقف د.محمود داود وزير الزراعة في ذلك الوقت، ليتحدث عن دور الحكومة في دعم الفلاح والزراعة، ليقف شامخاً إسماعيل صبرى عبد الله فيرد عليه كأعظم خبير زراعى ولينطلق التصفيق من جديد.. ووقف وزير الإسكان (لاأتذكر اسمه) ويرد ممثل حزبنا وينطلق التصفيق مجدداً.. وهكذا مع وزير الصحة ووزير الاقتصاد وغيرهم.. حتى انتهت المناظرة ليعلن الحاضرون فوز ممثل حزب التجمع بالضربة القاضية.

هامش ع الماشى: بعد نشر المناظرة ضمن الصفحة الرابعة من الأهالى، حزنت إلى أقصى درجة لأن ضرورات المساحة أدت لاختصار أجزاء منها، وتمنيت يومها لو أن مخترعاً يخترع لنا ورقاً من المطاط كى لا تمتد يد الاختصار إلى أى موضوع.

تأكيد ضرورى: انتهت المساحة المحددة لى، ولكن الذكريات في العقل مازلت باقية، فإلى لقاءٍ جديد، نفخر به بحزبنا وجريدتنا ونقول للشباب: ارفعوا رؤوسكم عالية وافخروا بحزبكم وبجريدتكم.

 

التعليقات متوقفه