فريدة النقاش تكتب:” تأديب ” المصريين

721

قضية للمناقشة

” تأديب ” المصريين

فريدة النقاش

لم أجد وصفاً أدق من ” تأديب المصريين ” كهدف للضوابط والمعايير التي وضعها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام . وهي الضوابط والمعايير التي تذكرنا صياغة بعضها بما أنطوت عليه التقارير الأمنية التي كانت تعد لإعتقال معارضين سياسيين . كانت هذه التقارير عادة تحمل عبارات غامضة ومطاطة وحمالة أوجه ، فتقول مثلا واحدة من الضوابط الإثنتي عشر : عدم تقديم محتوى من شأنه الإضرار بالمصلحة العامة للمجتمع ومؤسساته ومعتقداته الدينية ، أو التحريض على العنف والتمييز والكراهية ، أو تهديد الأمن القومي ” .

ولاتزال مثل هذه الصياغات الفضفاضة شائعة في التقارير الأمنية التي تستهدف ترويض سياسيين أو حتى أصحاب رأي معارضين .

وتوافق إعلاميون وصحفيون على أن هذه الضوابط هي إضافة حكومية للقيود المفروضة على الحريات ، بعد إضافات سابقة مثل قانون التظاهر وقانون الكيانات أو التشكيلات الإرهابية ، فضلا عن الممارسات الفعلية القاسية ضد الحريات العامة ، مما أنتج ركوداً ثقافيا ، وما يمكن أن نسميه صمتا شعبياً .

وللأسف الشديد ، فبعد موجتين هائلتين من موجات ثورة مصر الحديثة من أجل حريتها وإزدهارها في 25 يناير 2011 ، و30 يونيه 2013 بقيت مصر تحتل الموقع 116 في الترتيب العالمي لتوفر حرية الصحافة وأخذ الإعلام المصري يتدهور تدريجياً بسبب تركة موروثة من البيروقراطية والوساطة والفساد ، لتضاف إليها عمليات تقييد الحريات الجديدة التي أسكتت مئات الأصوات ، وحولت حتى مسلسلات التليفزيون إلى نسخ ركيكة من بعضها البعض ، مما دفع المشاهدات والمشاهدين إلى البحث عن القنوات الأجنبية ، ومنها تلك الموجهة ضد الثورة المصرية ، وما أنجزته هذه الموجات الثورية ضد فساد دولة ” مبارك ” من جهة ، وتهديد حكم الإخوان للبلاد بإقامة دولة دينية من جهة أخرى ، وكانت الملحمة التي أنجزها كفاح المصريين مثار إعجاب العالم ، وغضب المسعورين دفاعاً عن الدولة الدينية .

وقد انخرطت إعلاميات وإعلاميون في هذه اللعبة الجديدة الخطرة وشعارها إن لا صوت يعلو فوق صوت ” الإنجازات ” ، وأن مطالبات بعض السياسيين بالحوار ، وبتحويل ما تدعو إليه الحكومة من حوار مجتمعي حول الأولويات إلى واقع وعمل ، هو من باب تضييع الوقت ولهو الناس غير المنخرطين في ” الإنجازات ” .

ولا يأبه هؤلاء بالتعلم لا من التاريخ ، ولا حتى من التجارب السابقة والمريرة للمصريين أنفسهم ، حين إنهار نظام ” عبد الناصر” الذي حقق إنجازات هائلة كقصر من رمال ، وحين قال ” السادات ” إنه يسير على طريق ” عبد الناصر ” سخر منه مصريون كثر قائلين إنه فعلا يسير عليه ” بأستيكة ” وكان ” السادات” ذكيا حين اختار الحرية والتعدد مدخلا لإنقلابه .

ويبقى السؤال المشروع قائما كيف يمكن أن يتحول موضوع المشاركة الشعبية الحقة الذي تدعو له قوى اجتماعية وسياسية من ضمنها حزب التجمع دون إعلام يتمتع بقدر متزايد من الحرية ، بينما يحدث العكس تماما أي المزيد من القيود ، وما تنتجه القيود من أشكال فساد وخوف وصمت ، وتدهور مهني يتزايد كل يوم ، فالإعلام أخذ يتجنب القضايا الحقيقية التي تشغل المواطن العادي ، وإن تطرق لها فمن وجهة النظر الرسمية غالباً رغم أن أحد الضوابط يدعو إلى” التوازن في عرض الآراء المختلفة ” وهو طبعا ما يتجنبه الإعلاميون خوفا على مواقعهم .

وبمناسبة هذه المادة عن ” التوازن ” فهناك رجاء أظن أن إعلاميات وإعلاميين كثر يشاركونني فيه ، وهو مراقبة ما يدعو إليه المجلس في مادة أخرى تدعو إلى ” عدم الخلط بين الإعلام والإعلان ” ، إذ تتداول الأوساط الإعلامية حكايات مشينة عن إعلاميات وإعلاميين راكموا ثروات من خلط الإعلام بالإعلان في برامجهم ، كذلك هي ظاهرة تعرفها الصحافة المكتوبة خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أفضت لصعوبة العيش إن في أوساط المهنيين والطبقة الوسطى أو الطبقات الشعبية .

فإذا عدنا إلى الهدف الأساسي الذي أراه محركا لهذه الضوابط المزعومة ألا وهو ” تأديب المصريين ” فأقول إنني على يقين أنه هدف صعب إن لم يكن مستحيلا ، وأعود وأكرر ما سبق أن قاله المفكر الاشتراكي الراحل ” سمير أمين ” بعد أن تبين له تلاعب القوى المضادة للثورة بأهدافها : إن هذه الموجات من الثورة إن لم تكن قد غيرت الواقع الاقتصادي ـ السياسي كما تمنى الثوار فإنها غيرت المصريين .

ظل هذا الاستنتاج البليغ هو مرشدي في ظل الانتكاسات التي عرفتها الموجة ـ الثورية ، وبخاصة حين قفز الإخوان المسلمون على السلطة بليل ، وبدا لي لوهلة أن مصر قد ضاعت ، وكانوا هم يعدون أنفسهم ليجثموا على أنفاسها لخمسمائة عام ، فهل كان بوسع حركة تمرد أن تنجز ما أنجزته في حياة المصريين دون أن تهتدي ضمنيا وموضوعيا بما قاله وكرره وبرهن عليه ” سمير أمين ” ، في كتابات متتالية في كتبه أو في جريدة الأهرام

بل إن واقع التطورات في مصر يبرهن لنا بدوره على هذه الحقيقة في التحركات الهادئة التي يقوم بها عمال ومهنيون وأصحاب معاشات منطلقين غالبا من النضال القانوني في مواجهة الأوضاع الصعبة التي يعيشون فيها

بقى أن على الأحزاب والقوى التقدمية والمثقفين الديموقراطيين أن يبتكروا في تحويل أفكارهم للتغيير إلى واقع فعلي في حياة الناس ، فلا يشعر الذين يناضلون من أجل حقوقهم الأولية البسيطة أنهم مهجورون أو معزولون ، على هذه القوى أن تبرهن مجدداً على أن موجات الثورة غيرت المصريين فعلا .

 

التعليقات متوقفه