إقبال بركة تكتب: حكاية بيروقراطى مصرى ..”3″

648

شكشكة

حكاية بيروقراطى مصرى ..”3″

اقبال بركة

لم يحتف النقاد برواية “حضرة المحترم”، قدر احتفائهم بباقى روايات نجيب محفوظ، وقد تحولت الى مسلسل تليفزيونى لم يلق النجاح الكبير الذى لقيته رواياته الأخرى. والواقع أن هذه الرواية من أهم روايات كاتبنا الكبير لأنها تغوص فى لب المعضلة التى تعانى منها مصر منذ عقود طويلة و حتى اليوم، وهى تحول الروتين إلى مستنقع يغرق فيه كل صاحب أحلام أو طموح. إن عثمان بسيونى بطل الرواية ليس أول موظف حكومى يشغل كاتبنا الكبير فقد سبقه محجوب عبد الدائم بطل رواية “القاهرة 30 ” 1945، وحسين الصاوى بطل القصة القصيرة ” كلمة فى الليل” فى مجموعة ” دنيا الله ” 1963 و كلاهما يتشابهان مع عثمان بيومى فى الأصل الوضيع وفى سيطرة الطموح على شخصيتهم. إن محجوب عبد الدايم فى مصر الأربعينيات، شخصية لا أخلاقية شعاره فى الحياة ” طظ ” أو التحرر من كل شىء، من القيم والمثل والعقائد والمبادئ فى التراث الاجتماعى عامة، وحسين الصاوى فى مصر مابعد ثورة يوليو، لا يتورع عن التضحية بكل غال ورخيص فى سبيل الترقى. أما عثمان، فى السبعينيات، فيتميز بوعى اخلاقى وضمير يعذبه كلما اقترف إثمًا، والثلاثة ضحايا الثالوث المدمر: الفقر والطموح واللاانتماء، ويشتركون فى موقفهم السلبى من العمل السياسي والسخرية من الثائرين على الفساد السياسى والاجتماعى ويتطلعون لصعود السلم الاجتماعى عن طريق الترقى الوظيفى، وقد منحهم التعلق بذيل البيروقراطية المصرية الأمل فى الخلاص .

وبينما يعانى محجوب عبدالدائم من السخط والحقد على كل شىء، نجد أن الأمل الوحيد فى حياة بطل “حضرة المحترم ” عثمان بيومى هو الانتماء للنظام القائم والانخراط فى منظومته التى يراها مقدسة ويتعهد لوالديه على قبرهما أن ينقلهما الى قبر جديد إذا حقق الله أحلامه.

منذ البداية يعرف عثمان بيومى طريقه جيدا ويحدد موقعه بدقة. إنه لا يملك سحر المال ولا يتمتع بامتيازات الأسر الكبيرة ولا قوة حزبية تسنده، وليس من الذين يرتضون أن يلعبوا دور البهلوان أو العبد أو القواد. إنه واحد من أبناء الشعب التعيس الذى عليه أن يتزود بكل سلاح ويتحين كل فرصة، ويتوكل على الله، ويستلهم “الأبدية التى قضت على الإنسان بالسقوط فى الأرض ليرتفع بعرقه ودمه مرة أخرى إلى السماء”.

إنه يرفض مصير رئيسه فى قسم المحفوظات سعفان بسيونى، الذى كانت رئاسة القسم أبعد من خياله ” ولهذا قبع فيها حتى آخر يوم فى حياته الوظيفية “. أما هو، فإن كان لا يطمع فى وظيفة وزير أو وكيل ” أما وظيفة المدير العام فلا تستعصى على أبناء الشعب، هى أملهم المنشود والأخير. وبخاصة الأفذاذ منهم الذين يعرضون أنفسهم لذلك المجد العظيم “.

مثل مئات الألوف من موظفى الحكومة قدم عثمان من الريف، والسؤال الذى حاولت الإجابة عليه: هذا القادم من أعماق الفقر المصرى الذى دفن والديه فى قبور الصدقة ومن قبلهما فقد أخاه الوحيد الذى كان شرطيا فى مظاهرة، وأخته التى لم يفلح العلاج فى مستشفى الحميات فى إنقاذ حياتها من براثن التيفود، وأخاه الآخر الذى مات فى السجن،من أين له تلك الثقة فى النفس بلا حدود، وهذا الطموح الجارف.. ؟!

فالأسبوع القادم بإذن الله

التعليقات متوقفه