د. رفعت السعيد يكتب : الطبقة العاملة المصرية في غمار النضال (5)

34

ولأن الثورة الفعلية تختلف تماما عن الشعارات والخطب الثورية، ولأن الثورة تطلبت شهداء ودماء وسجون فإن العمال والفلاحين والطلاب كانوا وقودها الحقيقي، بدأ الطلاب بمظاهرة صاخبة تحدوا بها قيادة الوفد، ورغم أن عبدالعزيز فهمي باشا صاح فيهم «إنكم تلعبون بالنار، والثورة ليست لعب أطفال، دعونا نعمل في هدوء ولا تثيروا غضب القوم علينا»، تظاهر الطلاب وفي اليوم التالي مباشرة كان العمال في المعركة، متعمدين – ربما – أن يثيروا غضب الإنجليز إلي أقصي مدي، وفي يوم 13 مارس 1919 بدأ عمال الترام وعمال المترو وعمال ترام هليوبوليس إضرابهم الكبير الذي أوقف شرايين الحياة في العاصمة واستمر حتي 2 مايو، وكان الإضراب نموذجا للوعي الوطني الممتزج مع النضال الطبقي كالأهداف الوطنية حاضرة والصراع ضد قوات الاحتلال علنا وسرا متصاعدا وفوق هذا أعلن المضربون حزمة من المطالب العمالية منها:

– جعل الأجرة خمسة عشر قرشا يوميا.

– أن تقدم الشركة ملابس العمل لعمالها مجانا.

– مدة العمل ثماني ساعات يوميا.

– يمنح كل عامل راتب شهر سنويا.

– عدم اضطهاد العمال النقابيين.

– يوم عطلة مدفوعة الأجر أسبوعيا.

– علاوة غلاء معيشة بنسبة 30% من الأجر.

ومطالب أخري عديدة، وفي 15 مارس أعلن عمال عنابر السكة الحديد المشاركة في الإضراب متمسكين بذات المطالب وساروا في مظاهرة ضخمة ضمت 4000 عامل، وفي 18 مارس انضم عمال المطبعة الأميرية إلي الإضراب وفي 6 أبريل شارك عمال شركة الغاز في الإضراب واستمر الجميع مضربين ومتمسكين بالمطالب العمالية وحتي 2 مايو.. وتوالت المشاركات الإضرابية من عمال الكنس والرش في العاصمة – وعمال ورشة البوستة الخديوية – وعمال ورش جبل الزيتون التابعة لمصلحة السكة الحديد، وأيضا سائقي القطارات.. وبهذا شلت مظاهر الحياة في العاصمة، وكانت التجربة الأولي للإضراب العام الذي استمر أكثر من شهر ونصف الشهر، وكانت سهام المضربين موجهة ضد قوات الاحتلال وضد ممثلي الاحتلال في مختلف المصالح الحكومية وضد أصحاب الأعمال الذين كانوا في أغلبهم من الأجانب، ولأن قيادة الوفد كانت ضد الإضراب فإن العمال – وهذا طبيعي تماما – اتجهوا إلي اليسار، وتقبلوا بامتنان مساندة حميمة من المثقفين اليساريين الذين كانوا هم أيضا غاضبين من بعض الميل للتهاون مع الاحتلال بهدف الوصول إلي حلول وسط معه، وعندما وصل الجنرال الليثي إلي القاهرة في 25 مارس 1919 معلنا أن واجبه الأساسي «أن يضع حدا ونهاية للإضرابات الحالية وفي محاولة للتجاوب معه أصدر المتبقون في مصر من قيادة الوفد بيانا هزيلا يناشدون فيه الشعب ألا يخرج أحد في أعماله عن حدود القانون حتي لا يسد الطريق في وجه الذين يخدمون الوطن، وعلي الجميع أن يقوموا بالواجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيسارعوا إلي اتخاذ جميع ما لديهم من وسائل لمنع كل ما ينجم عنه ضرر البلاد» (محمد صبيح – مواقف حاسمة في تاريخ القومية العربية ص431).. هذا البيان الهزيل صدر يوم 26 مارس فلم يلتفت إليه العمال واستمروا في إضرابهم وفي عملهم السري في إطار جمعية «اليد السوداء» ضد الاحتلال وأفرج عن سعد زغلول ورفاقه يوم 7 أبريل، لكن العمال استمروا في إضرابهم العام.. وفي اليوم التالي مباشرة وقعت مصادمات دامية مع قوات الاحتلال انتهت بقتلي وجرحي، واستمر الإضراب العام حتي 2 مايو، ولكن إلي أمد قصير فالإضرابات العمالية عادت لتتصاعد وفي آخر يونيو أضرب عمال الغاز، وفي 28 يوليو أضرب الحلاقون في الإسكندرية مطالبين بزيادة أجورهم بنسبة 40% وفي 16 يوليو أضرب عمال شركة السكر وعمال تفتيش كوم امبو وفي 28 يوليو أضرب عمال القهاوي وفي 4 أغسطس أضرب عمال الشحن والتفريغ في ميناء الإسكندرية وتبعهم عمال الترام في 10 أغسطس أضرب عمال السجاير وترام الإسكندرية وعمال شركة بوذاستورز وعمال مصنع السفن النيلية والتجارية وعمال شركة النور في الإسكندرية» (عبدالمنعم الغزالي – تاريخ الحركة النقابية – 1899 – 1952 ص65).. إنها نذر الإضراب العام من جديد وثمة إحصاء رسمي يقول إنه خلال الفترة من ديسمبر 1919 وحتي نهاية 1921 نظم العمال 81 إضرابا كبيرا شملت مختلف فروع الاقتصاد من بينها 67 إضرابا شل كل منها فرعا متكاملا من أفرع الصناعة» (سليمان بشير – الشيوعية في الشرق العربي 1891 – 1928 – بالإنجليزية ص54) وفزعت القوي المحافظة بما فيها قيادة الوفد والتي كانت بصدد تقديم تنازلات للاحتلال الأمر الذي أثار ضدها الطلاب اليساريين المصريين في أوروبا وعديدا من القوي اليسارية والعمالية داخل مصر، ويعلو صوت فرح أنطون..

إلي أين تمضي بالأمانة يا سعد

وتجني علي شعبي عليك له العهد

رويدك لا تعبث بآمال أمة

شغوف بالاستقلال يهتاجها المجد

فيا سعد حاذر أن تضل طريقها

وإلا فلا سعد هناك ولا وفد

وتلقنت البرجوازية- التي كانت لم تزل وليدة ولم تزل حديثة العهد بالحكم- الدرس.. وقررت محاولة السيطرة علي حركة العمال.

التعليقات متوقفه