د. جودة عبدالخالق يكتب:اقتصادنا .. بين الفيروس التاجى و المرض الهولندي

945

لقطات

اقتصادنا .. بين الفيروس التاجى و المرض الهولندي

د. جودة عبد الخالق

الفيروس التاجى هوكوفيد-19. ويُعرَف باسم الشهرة- كورونا. ويسمونه الفيروس التاجى أو الإكليلى (Coronavirus)، لأنه على شكل تاج. وهو كائن دقيق للغاية؛ إذ يبلغ طول قطره حوالى 125 نانومتر. والنانومتر (ويرمز له بـالرمز نم أو nm) هو وحدة تستخدم لقياس الأطوال فائقة الصغر. وهو جزء من مليار جزء (أي 10-9) من المتر. ورغم ضآلته المتناهية، فقد حصد كورونا من أرواح البشر أكثر كثيرا مما حصدته القنابل الذرية التي ألقاها الأمريكان على اليابان في أغسطس 1945. و ما زالت الإصابات والوفيات على مستوى العالم ككل في مرحلة التصاعد وليس التراجع. وحتى الآن لا يعرف أحد نهاية محددة للوباء.

هذا عن الفيروس التاجى. فما هو المرض الهولندي؟  إنه مرض عُضَال يصيب الاقتصاد. ولتوضيح هذه المسألة المعقدة لا بد من شيء من التبسيط. فاقتصاد أي بلد ينقسم إلى قطاعات، وكل منها ينتج منتجات (سلع أو خدمات). بعض المنتجات يتم تبادله عبر حدود البلد (تصديرا أو استيرادا)، و لذلك يسمى سلع تجارة (tradables)، و من أمثلته القمح و السيارات. والبعض الآخر يتم تداوله داخل البلد، و لذلك يسمى سلعا محلية (nontradables)، و من أمثلته البرسيم و العقارات. أهم قطاعات سلع التجارة هى: الزراعة والصناعة. وأهم قطاعات السلع المحلية هي: الخدمات و التشييد و البناء و العقارات. و المرض الهولندي يتمثل في تمدد قطاعات السلع المحلية على حساب سلع التجارة، نتيجة لأخطاء في السياسات الاقتصادية.

اقتصادنا يعانى من المرض الهولندى. فعلى امتداد نصف القرن الماضى، أدت سياسات الحكومة الى تراجع مساهمة الزراعة والصناعة في الناتج وزادت مساهمة قطاعات التجارة والمطاعم والعقارات والبناء والتشييد.  فزادت الواردات وتقلصت الصادرات، وبالتالى ظهر عجز مزمن في الميزان التجارى. وبمُضِىِّ الوقت، ترتب على تراكمه مشكلة الديون الخارجية. وهى كما يقول المثل َهمٌ بالليل و مذَلَّةٌ بالنهار. وزاد الطين بلة تمسك الحكومة باقتصاد السوق الحر ونموذج الاقتصاد الريعى. فنتيجة لهذا النموذج، أهدرنا الزراعة (حتى ما ورثناه من محمد على) و الصناعة (حتى ما تركه لنا طلعت حرب)، وأهملنا التعليم والصحة. و تم رهن مقدرات بلادنا بأربعة مصادر ريعية؛ ريع الموارد الطبيعية (نفط  وغاز وسياحة)، وريع الموارد البشرية (تحويلات المصريين المغتربين)، وريع الموقع (قناة السويس)، والريع الاستراتيجي (المساعدات والمنح المالية، خصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج). وكل هذه المصادر مرتبطة بالتطورات الخارجية أكثر من ارتباطها بالمقدرات الداخلية.

والنتيجة أن اقتصادنا صار هشا إلى درجة كبيرة جعلت مناعته ضعيفة للغاية إزاء الصدمات الخارجية، بالذات إذا كانت بقوة جائحة كورونا. و المؤكد أن النمو الاقتصادى سيتراجع، وأن البطالة و الفقر سيزدادان. لكن لا يستطيع أحد تقدير المدى الذى ستصل إليه الأمور؛ لأننا ما زلنا في أوج العاصفة. والمطلوب الآن هو استخلاص الدروس. و نؤكد هنا على ما يلى. أولا، ضرورة التخلي عن نموذج الاقتصاد الحر (النموذج النيوليبرالى). ثانيا، إعادة الاعتبار للزراعة والصناعة ووضع الأمن الغذائي على رأس أولوياتنا، وتحجيم الاعتماد على السياحة و العقارات. ثالثا، إعطاء الأولوية للتعليم والصحة. فمصر بحاجة ماسة إلى مدارس ومستشفيات، وليس إلى ملاهٍ و منتجعات. رابعا، فلنتجنب الانزلاق إلى هاوية الديون. و بالتالى أنا أحذر من تسرع الحكومة في اللجوء إلى صندوق النقد كما حدث. الحل ليس في الاقتراض، بل في إجراءات تقشفية صارمة. و الخطأ كل الخطأ هو أن تعود ريما لعادتها القديمة بعد انتهاء الجائحة.

حكمة اليوم: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.  (سورة البقرة:26)

*تهنئة: إلى الجميع أقول رغم أنف كورونا “كل عام و انتم بخير” بمناسبة عيد الفطر المبارك.

 

التعليقات متوقفه