تعرف علي فيلسوف بوتين المفضل.. ألكسندر دوجين

719

 

إعداد و ترجمة مارك مجدي

 

في اغسطس 2008 تدخلت القوات الروسية في النزاع المسلح بين قوات حكومة جورجيا و قوات الانفصاليين. و كان ألكسندر دوجين هو أحد أهم الأصوات التي دفعت نحو هذا التدخل حسب جريدة الفانيننشال تايمز. ذهب الكثير من المحللين و المتابعين الغربيين أن هذا التدخل هو الدليل الدامغ علي التأثير الكبير الذي يمارسه دوجين علي السياسة الخارجية الروسية و علي الطريقة التي يفكر بها بوتين. فأصبح “الرجل الذي يصيغ أفكار بوتين” حسب جريدة الاذاعة البريطانية.

منذ هذه الواقعة بدأت الصحف و الوكالات الغربية بربط أراء و كتابات دوجين الجيو سياسية بتوجهات و سياسات روسيا. وبالفعل, فالتقارب بين كتابات دوجين و أفعال و قرارات الدولة الروسية سواء داخلياً و خارجياً يكاد يكون تطابق. و لكن ذهبت النخب الإعلامية و السياسية بعيدأ لدرجة القول بأن دوجين هو من دفع بوتين لاختراق الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب و أنه المسئول عن سياسة بوتين في التقارب مع ترامب التي مارسها مع تولي الأخير السلطة. و بالتأكيد ليس إدعاء تزوير الانتخابات من قبل الروس سوي دعايا تلعب علي شيطنة العدو التقليدي للولايات المتحدة.لكن فيما يخص التقارب بين بوتين و ترامب, فدوغين هو بلا شك الراعي الرسمي لهذه العلاقة, حيث أيد دوغين ترامب من اللحظة الأولي و نظر إليه كحليف مهم لروسيا في الداخل الأمريكي.

ألكسندر دوجين حاملاً الكلاشينكوف

 

أياً كانت هذه الدعاية حول دوجين فهو بلا شك يعتبر أحد العقول الرئيسية في صياغة السياسات و الاستراتيجيات الروسية. وهو يمثل تياراً جديداً في الفكر القومي اليميني الروسي. و من المؤكد أن بوتين يعتبره أحد أهم المحللين الجيوسياسيين و أهم مصدر للسياسة الخارجية الروسية. عام 1990 نشر دوجين أحد أكثر أعماله تأثيراً و الذي صاغ فيه توجهه الفكري و الجيوسياسي الموسوم بالأوراسية الجديدة.

 

 

الأوراسية الجديدة

الأوراسية هي حركة سياسية و فكرية نشأت في روسيا و تتمحور حول فكرة أن الحضارة الروسية ليست «أوروبية» ولا «آسيوية»، وإنما تندرج تحت مفهوم «أوراسيا» الجيوسياسي. ظهرت الحركة في عشرينيات القرن العشرين، وكانت داعمة لتحركات الثورة البلشفية في بدايتها لكنها لم تدعم أهدافها الأيدولوجية حول إقامة المجتمع الشيوعي، وترى الاتحاد السوڤيتي خطوة مهمة نحو خلق هوية قومية جديدة تعكس الطابع الفريد للوضع الروسي الجيوسياسي. نهضت الحركة نهضة بسيطة هامشية بعد انهيار الاتحاد السوڤيتي في آخر القرن العشرين، ولها انعكاس ظاهر في الحركة الطورانية بين الترك والفينيين. و يري الأوراسيون التقليديون أن الثورة البلشفية كانت انعكاساً طبيعياً للتفاوت و الظلم الواقع علي المجتمع الروسي من قبل الدول الأوروبية, و ان الثورة البلشفية لعبث دورا ً مهماً في التحديث السريع للمجتمع الروسي و الجمهوريات التي أنضمت إليه. تؤسس الدعوة الأوراسية على الموقع الجغرافي والجيوسياسي الفريد لأوراسيا، حيث تشغل روسيا موضع القلب، وتعتبر هذا الموقع حجر الزاوية في بنيانها. ومن المسلمات الأساسية للمشروع الأوراسي أصالة الطريق التاريخي والحضاري الفريد لأوراسيا ولنواتها روسيا. يؤكد انصار الفكر الأوراسي ان الحضارة الغربية راكدة متعثرة ولا تمثل الحضارة البشرية المشتركة، بل هي تقود البشرية الى طريق مسدود. ومن وجهة نظرهم كل محاولات التجديد والتحديث وفق السيناريوهات الأوروبية الغربية كانت وستبقى مدمرة فتاكة بالنسبة للشعوب الأوروبية الآسيوية. كما يعارض الأوراسيون النظريات الغربية اللبرالية التي تعتبر روسيا جزءاً من اوروبا ملزما بالتوجه نحو الغرب ، مشددين على ان رسالة روسيا كنواة ومركز للعالم الأوراسي تتلخص ايضا في التصدي لتوسع الحضارة الغربية عالميا. وفي مواجهة هذا التوسع يطرحون مشروع إئتلاف للشعوب الأوراسية بوصفه ضمانة للأمن الجماعي لروسيا وباقي دول اوراسيا. وبالتالي يمثل المشروع الأوراسي اليوم أيديولوجية للتكامل الجديد في المجال ما بعد السوفيتي، وخصوصا في آسيا الوسطى والمركزية، ولتطوير علاقات روسيا مع أيران وتركيا. الاتحاد الجمركي بين روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان ، وكذلك أنشطة هيئات دولية مثل منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظمة شنغهاي للتعاون يعتبرها الأوراسيون خطوات واقعية على طريق التكامل.

أفكار دوجين كفيلسوف الأوراسية الجديدة

يقترح دوجين أن هناك ثلاث نظريات سياسية رائدة تركت أثرها على العالم في الماضي الحديث نسبيًا، هي الرأسمالية الليبرالية أو «الليبرالية»، والشيوعية، والفاشية. ويعتقد دوجين أن الولايات المتحدة هي زعيمة الليبرالية العالمية، وقوامها الحرية الفردية، والمنهج العقلاني والسوق. ويذهب دوجين أنه على الرغم من أن الليبرالية هي الأيديولوجيا المتغلبة حتى الآن، بعد انتصارها على الفاشية عام 1945، والشيوعية عام 1991 ,إلا أنها تواجه أزمة طاحنة. ويعتقد دوجين أن الليبراليين أنفسهم سوف يكونون أول معترف بتلك الحقيقة. ويرى أن الليبرالية تواجه طريقًا مسدودًا وأنها غارقة، حاليًا، في «مرحلة عدمية ما بعد الحداثة» لأنها تحاول تحرير نفسها من الفكر العقلاني وقهر العقل، الذي هو بالنسبة إلى شخص ليبرالي «شيء فاشي بحد ذاته».

ويأخذ دوجين تلك الفكرة إلى مرحلة أعلى، واصفًا الليبرالية أنها تحاول الآن تخليص أعضاء الجسد من سيطرة العقل، مشيرًا بذلك إلى السماح بوجود مجتمع المثليين والمتحولين جنسيًا وثنائيي الجنس. «تصر الليبرالية على الحرية والتحرر من أي شكل من أشكال الهوية الجمعية. هذا هو جوهر الليبرالية. لقد حرر الليبراليون الإنسان من الهوية القومية، والهوية الدينية وهلم جرًا. إن الجنس (الجندر) هو آخر ما تبقى من الهوية الجمعية، وها قد جاء وقت إلغائه وجعله مسألة اعتباطية واختيارية». ويقترح دوجين «نظرية سياسية رابعة» بدلًا من الأيديولوجيات الثلاث التي يراها ميتة. هذه الأيديولوجيا سوف تخلق نموذجًا سياسيًا بديلًا بالكامل، في مواجهة «التقدم» في تاريخ العالم بوضعه الحالي.

يرى دوجين هذه النظرية مستمدة، جزئيًا، من أعمال الفيلسوف الوجودي الألماني، مارتين هايدغر، المثير للجدل لارتباطه بالنازية. وتدعو فلسفته إلى إنقاذ جذر وعي الإنسان بذاته (يسميه هايدغر الدازاين أو الكينونة)، بعد أن ذاب هذا الوعي في الفضاء المعاصر ويرجع ذلك، بشكل أساسي، إلى التكنولوجيا التي جردت الإنسان من إنسانيته. و إذا هذا الجذر من الكينونة يختلف من شخص لآخر، ومن ثقافة لأخرى، فإن العالم ينبغي أن يشهد تقسيمًا متعدد الأقطاب للقوة، بدلًا من وجود قوة عظمى واحدة متمثلة في الولايات المتحدة. وبحسب دوجين، فإن إيجاد وسيلة لتطبيق هذه الطريقة للنظر إلى العالم، سوف يتطلب عودة الإحساس بالهوية إلى البشر الذين فقدوا هذا الإحساس في كل أنحاء العالم. ويقارن دوجين نظرية العالم متعدد الأقطاب تلك بما يراه هو حركة تتجه ناحية خلق «حكومة للعالم» تقودها «النخب المتعولمة» المخادعة التي تهدف إلى حرمان الناس من الشعور بالهوية وإخضاعهم إلى احتياجات شركات هذه النخب.

مارتن هايدجر

أي دور سوف تسعي إليه روسيا بناء علي ذلك؟ يرى دوجين روسيا الأمة الرائدة في الاتحاد الأورو-آسيوي، وقد أنشأ دوجين حركة أوارسيا الدولية لتحقيق ذلك الغرض. ما هي أوراسيا بالنسبة لدوجين؟ هي أراضي الاتحاد السوفييتي السابق، بشكل أساسي. يعتقد دوجين أنَّ الاتحاد السوفييتي قد استولى على حدود اتحاد تاريخي من الشعوب والعرقيات ذات الثقافة والمصير المميزين، وأنَّ المهمة تقتضي خلق مركز قوة له عناصر من كل من أوروبا وآسيا، وهما القارتان اللتان تمتد فيهما روسيا الفسيحة. «لا يعلم الغرب شيئًا عن التاريخ الحقيقي لروسيا. أحيانًا يعتقدون أن الاتحاد السوفييتي كان مجرد اختلاق سوفييتي، وأن دولًا مثل أوكرانيا، وكازاخستان، وأذربيجان كانت دولًا مستقلة قبل الاتحاد السوفييتي، وأنهم إنما احتلهم البلاشفة أو أجبروا على الدخول في الدولة السوفييتية. ولكنَّ الحقيقة أن هذه الدول لم توجد أبدًا كدول مستقلة ذات تمثيل، وإنما باعتبارها أحياءً إدارية دون أي معنى سياسي أو تاريخي داخل الإمبراطورية الروسية، والاتحاد السوفييتي على حد سواء. لقد اصطُنعت هذه الدول، بحدودها الحالية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فحسب، نتيجة لهذا الانهيار». ومن ثم تكون الغاية الأساسية من إنشاء الاتحاد الأوراسي تصحيح خطأ تاريخي، وإعادة جمع إمبراطورية ناجحة قد وجدت حتى قبل الاتحاد السوفييتي. وبهذا يصبح استيلاء روسيا الأخير على شبه جزيرة القرم، وخططها حول أوكرانيا، جزءًا منطقيًا من تلك الخطة.

و تحليل دوجين التاريخي  لا يتوقف عند هذا الحد، وإنما يذهب أبعد من ذلك، إلى حد الزعم أن الخصم الحالي لأوراسيا ليس الولايات المتحدة، وإنما الأطلسية، أي محور التعاون بين أوروبا والولايات المتحدة وكندا، والذي يعبر المحيط الأطلسي. هذه الأمم البحرية الليبرالية التي تقدر الفردانية وقوة السوق.لكن أوراسيا، من جهة أخرى، تمثل الفلسفة المحافظة الخاصة بالقارية غير الساحلية، والتي من قيمها، بحسب الأوراسيين، التراتبية الهرمية، والقانون والنظام، والتقاليد، والدين.وهكذا يمكن وضع أطلنطا في مقابل أوراسيا. في الحقيقة، يزعم دوجين أن التاريخ برمته يمكن رؤيته صراعًا بين الأمم الساحلية والأمم البرية. و أحد أهم مؤلفات دوجين هو كتاب «قواعد الجغرافيا السياسية»، والذي يعود تاريخه إلى عام 1997، ولاقى رواجًا بين الجيش الروسي.

وبحسب مجلة فورين بوليسي، فإن كتابه هذا يدرس في الجامعات العسكرية الروسية. يحدد الكتاب, رؤية لروسيا في القرن الحادي والعشرين من شأنها أن تؤدي إلى تكوين أوراسيا، لكنه يشتمل أيضًا على إستراتيجيات محددة لهزيمة أو تحييد الولايات المتحدة. تشمل هذه الإستراتيجيات زعزعة الاستقرار وحملات التضليل باستخدام القوات الروسية الخاصة، والحرب غير المتكافئة، وشطر التحالفات بين الولايات المتحدة ودول مثل ألمانيا وفرنسا، إلى جانب زرع بذور الشقاق داخل أمريكا ذاتها، خصوصًا فيما يتعلق بالعلاقات بين الأعراق.

يشرح دوجين ذلك، في الصفحة رقم 367 من النسخة الأولى من الكتاب إذ يقول: «من المهم، على وجه الخصوص، إدخال الاضطراب الجيوسياسي إلى النشاط الأمريكي الداخلي، عن طريق تشجيع كل أنواع الانفصالية والنزاعات العرقية والاجتماعية والعنصرية، والدعم الفعال لكل الحركات المنشقة ــ أي الجماعات المتطرفة، والعنصرية، والطائفية، وبهذا نزعزع استقرار العمليات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة. وسوف يكون من المنطقي أيضًا أن ندعم، في الوقت ذاته، النزعات الانعزالية في السياسة الأمريكية…».

من الواضح إذن أن المنطلق الفكري لنظريات دوجين هو منطلق يميني قومي متطرف يحتوي علي نزعة امبراطورية روسية, و هو ما يتجلي بوضوح في أراؤه عن ما يجب أن يسود في المجتمع الروسي من أفكار, حيث الدين في شكله الأرثوذكسي هو الأيدولوجيا المثلي للروس و الانتماء الأثني و العرقي هو أساس و قوام هذه الامبراطورية التي تقوم علي الروس كقومية محددة. كما يمجد النزعات الدينية و يرفض فصل الدين عن الدولة و مفاهيم الحريات الفردية, و بالتأكيد ينظر للشيوعية باعتبارها درب من دروب الجنون لكنها كانت مفيدة في مرحلة ما من تاريخ روسيا. فالوحدة مع ما هو أبدي و سامي و النظرة للدين بأعتباره الملاذ الأمن ضد “شهوانية الحداثة” هي توجهات دوجين الفكرية رغم محاولة إدخال العلم و المنطق في نسقه الفكري.

و تذهب جريدة جاكوبان أن توجهات روسيا بوتين الداخلية من الاعتداء علي اليساريين و سجنهم و تدعيم الجماعات اليمينية في مواجهتهم و التأكيد علي الطابع الديني للتوجهات السياسية الروسية هو آثر مباشر لانتشار أفكار الأوراسية الجديدة في المجتمع و تبني صانع القرار في روسيا لها.

 

 

التعليقات متوقفه