فريدة النقاش تكتب :الأمة العربية

218

قضية للمناقشة

الأمة العربية

فريدة النقاش

تدعونا الأوضاع الراهنة في الوطن العرب، والأخطار المحدقة بمصر على نحو خاص باعتبارها قلب العروبة النابض، كما أعتدنا أن نردد في الملمات، لإعادة النظر فيما كنا قد اعتبرناه من المسلمات التي انعقد عليها ما يشابه الاجماع من أغلبية كبيرة من المواطنين .

وكان مفهوم “الأمة العربية” واحدا من هذه المسلمات إلى أن عصف به أو بالأحرى همشه الانكسار الذي قوض أركان حركة التحرر الوطني  العالمية وتوالت عمليات إلحاق الدول المستقلة حديثا بالمحور الامبريالي وتوالت الانكسارات  فانهارت التجربة الاشتراكية سواء في الاتحاد السوفيتي أو بلدان أوروبا الشرقية، وسرعان ما لحقت بهذا الانكساردولة الرفاة في كل من اوربا وامريكا وعدد من بلدان العالم النامي، واكتمل القوس كما يقال، وتكفلت الرأسمالية المتوحشة التي لم تعد تخشى شيئاً ولا أحدا بالانقضاض على الحقوق التي كانت الطبقة العاملة متحالفة مع الكادحين وأصحاب الأجور قد ناضلت من أجلها طويلا، وقدم هذا الحلف الذي ضم مئات الملايين من البشر تضحيات جسيمة لإنتزاع هذه الحقوق، التي عادت لتصبح المحور الرئيسي للصراع .

وهكذا وجدت القوى التقدمية ـ من كل المشارب ـ نفسها أمام واقع جديد على كل الصعد محلية وأقليمية وعالمية، ونشأت في هذا السياق المهزوم أفكار ما بعد الحداثة وجوهرها تجزئة المجزأ وتفتيت المفتت، وتناثرت في كل مكان شظايا التجزئة والتفتيت، للبلدان والشعوب والمعتقدات والقوى ونشطت القوى الرجعية، وأخذ السم الأصولي يسري في الأبدان، واندلعت حروب أهلية صغيرة وكبيرة في غالبية القارات رافعة شعارات، الخصوصية، وبدلا من أن تصبح الاثنيات المختلفة والتي تعايشت فيما بينها طويلاً مصدراً للإثراء والعمق الإنساني رفعت رايات الانفصال والاستقلال .

وكان للأمة العربية مشروعها القومي التحرري نصيبها الكبير جداً من هذا الانكسار، وهو ما نجني حصاده المر الآن إذ يتلمظ الغازي التركي للإنقضاض على ثرواتنا مدفوعاً بوهم الإحياء العثماني وأوهام الامبراطورية، وهكذا يقول دعاة الامبراطورية الفارسية وهي تتلاعب بالدين، أما المشروع الصهيوني لإسرائيل الكبرى فيتمدد بدوره مسنوداً بتماهي الامبريالية الأمريكية معه، وتتزايد أطماعه بضعف العرب وتبعيتهم، وهوانهم على العالم وحتى على أنفسهم.

لن يفيدنا البكاء على اللبن المسكوب، و التماس العزاء في أمجادنا الغابرة، بل نحن مطالبون ـ بكل أسف ـ أن نكافح حتى نكسب مجددا معارك سبق أن كسبناها في ساحات الفكر والعمل.

فلا يخفي علينا أن إساءات بالغة بل ومشينة قد طالت مفهوم الأمة في المطلق والأمة العربية على نحو خاص بعد التجارب المريرة، والممارسات الاستبدادية التي انغمست فيها أحزاب قومية حين وصلت للحكم في عدد من بلدان الوطن العربي، وإذا كنا مازلنا قادرين على التباهي بثقافتنا وأمجاد أمتنا الغابرة، فعلينا أن نكون شجعانا بما يكفي لممارسة النقد والاعتار عن كل ما جرى من مآسٍ باسم القومية العربية، فوحدة الفكر النقدي هو الذي بوسعه أن يغسل هذه الصفحات السوداء من تاريخنا، وحينها سيكون بوسعنا أن نواجه المرحلة الجديدة، ونزحزح الجمود وضيق الأفق والاستعلاء والخيلاء القومية، ونلغي من مصطلحاتنا فكرة النقاء العرقي والنزعات المثالية التي طالما ارتبطت بالفكر القومي التقليدي، ونقوم بإعادة تعريف الأمة كمجموعة سياسية ظهرت في إطار التتابع التاريخي للتشكيلات الاجتماعية، والطابع القومي هو نسبي ومتغير وليس جامداً أو ثابتا، وتغيره ناجم عن التاريخ المشترك ووحدة الأرض واللغة والثقافة المشتركة التي تنتجها الشعوب وتضيف إليها وتشطب منها .

وهو ما كان أجدادنا قد أدركوه جيداً حين أضاءوا العالم في الاندلس لثمانية قرون، وانتقلت حضارتهم إلى أوروبا لتنتشلها من ظلام القرون الوسطي، وعرف هؤلاء الاندلسيون العظام أن في التنوع ثراء، ورفعة، وأن إسهام الشعوب هو أساس الحضارة .

ومن أهم ماعلينا أن نكسبه مجدداً في ساحة الأفكار، تلك التفرقة الدقيقة والتمييز بين نوعين من القومية، القومية المضطهدة ( بفتح الطاء ) أو في توصيف آخر المهيمن عليها والتي تنخرط في حركة التحرر الوطني والديموقراطي وتستجيب لتطلعات الشعوب صوب العدالة والمساواة ونفي الاستغلال .

أما القومية الأخري فهي قومية الدول المهيمنة التي تتواطأ مع الإمبريالية، وتتحول هي نفسها إلى امبريالية صغرى على غرار كل من تركيا وإسرائيل وإيران الآن، وتتقاسم مع الامبرياليات الكبرى ما نهبته من ثروات الشعب، دون أن يعني ذلك زوال التناقضات الثانوية فيما بين الصغير والكبير كما نشهد في علاقة إيران وأمريكا .

نجحت نظم الاستبداد والفساد والتبعية في بلدان الوطن العربي على امتداد تاريخها في إضعاف ومحاصرة قوى التقدم وإفساد تحالفاتها ومع ذلك بقيت هذه القوى فاعلة وقادرة على إنتاج الأفكار وتكوين المناضلين في الميادين كافة، وهي القوى المنوط بها الآن في هذا الزمن الصعب طرح مفهوم الأمة العربية مجدداً وبقوة في سياق الأوضاع الراهنة، وهو المفهوم الذي سبق أن أنتج الفكر العربي عنه وفيه كتابات رفيعة المستوى تحتاج من الأجيال الجديدة أن تقدمها للجمهور الواسع مقترنة دائماً ببرامج عمل حتى لا ينفصل الفكر عن الفعل، ولا العقل عن العصر، لأن معارك هذا العصر تختلف عن كل ما سبق، ففي هذا العصر خلاصة ما انتجته البشرية من أجل إسعاد البشر وتصفية الاستغلال.

والمفارقة أن عدد البؤساء والجوعى، وضحابا الحروب والفساد يتزايد، لكن الأفق ـ مع ذلك يظل مفتوحاً على مستقبل آخر لأمتنا العربية رغم كل شيء .

 

التعليقات متوقفه