خمسون عاماً على رحيل الزعيم:عبد الناصر والثقافة .. إنجازات متعددة وخطايا قاتلة

306

مثلت الثقافة ركناً مهماً من أركان بناء الدولة في عهد ” جمال عبد الناصر ” بداية من اتساع رقعة التعليم وزيادة عدد المدارس بعد ثورة يوليو 1952 وكذلك إنشاء الجامعات المختلفة سواء في العاصمة أو في الأقاليم ، مما ساعد في عملية الحراك الاجتماعي ، وهذا ما يشير إليه د. جلال أمين في كتابه ” ماذا حدث للمصريين ” حين يقول : ” هناك من عوامل الحراك الا جتماعي في الخمسينيات والستينيات ما استمر يعمل بقوة خلال السبعينيات والثمانينيات أيضاً ، فالتوسع في التعليم مثلاً، الذي بدأ قبل الثورة وتلقى دفعة قوية في عهد عبد الناصر ، لم تستطع أية حكومة مصرية ، إشتراكية كانت أم انفتاحية ، أن تقف في وجهه ، إذ لم تستطع أي حكومة في مصر ، أياً كانت فلسفتها الاقتصادية والاجتماعية ، أن تصد الضغوط الاجتماعية المطالبة به ، بل إنه على الرغم من انخفاض معدل الزيادة في إنشاء المدارس والفصول الجديدة ، اقترنت السبعينيات والثمانينيات بتوسع غير مسبوق ، حتى بالمقارنة بالخمسينيات والستينيات ، في التعليم الجامعي ، وعلى الأخص في الأقاليم”.

الحقبة الناصرية دفعت بمعدل الحراك الا جتماعي إلى مستويات غير مسبوقة ، كمحصلة لعدد من العوامل التي تكون في مجملها ما يعرف بالسياسة الناصرية ، من أهم هذه العوامل التوسع الكبير في التعليم ومد المجانية فيه إلى الدراسة الجامعية” .

هذه السياسة التعليمية أفرزت أجيالا من المثقفين الذين تعلموا بالمجان ، من خلال المدارس التي أنشأتها حكومة الثورة .

نهضة ثقافية

كما واكب النهضة التعليمية نهضة ثقافية شاملة ، من خلال بناء مؤسسات ثقافية مهمة مثل ” مصلحة الفنون ” والتي كان يشرف عليها الأديب يحيي حقي ، ومؤسسة ” المسرح ” و” مؤسسة السينما ” والتي عمل فيها لفترة طويلة عميد الرواية العربية نجيب محفوظ .

وقد عملت هذه المؤسسة على إنتاج أفلام روائية طويلة تعتبر من أهم كلاسيكيات السينما المصرية مثل ” رد قلبي ” و” بداية ونهاية ” و” دعاء الكروان ” وغيرها ، كما قدمت مئات الأفلام التسجيلية التي حصلت على جوائز عالمية من أكبر المهرجانات العالمية وظهرت أسماء مهمة في الإخراج في هذا المجال أمثال شادي عبد السلام وهاشم النحاس وعلى الغزولي وغيرهم .

وفي مجال المسرح فقد شهد هذا الفن أهم فتراته في التاريخ المعاصر ، بظهور أسماء مهمة في التأليف المسرحي أمثال نعمان عاشور ، ومحمود دياب ، وميخائيل رومان وصلاح عبد الصبور ، وعبد الرحمن الشرقاوي ، وعلى سالم والفريد فرج .

وقد شهدت هذه الفترة أيضاً بعض المبادرات المسرحية الجادة لكشف وفضح مفاسد العصر البائد ، وتأكيد منجزات الثورة والدعوة لحماية مكاسبها ، والتعبير عن الإيمان بتوجهاتها القومية العربية ، كما تضمنت هذه المبادرات بعض الدعوات الجادة والشجاعة كتوجيه وتصحيح مسار الثورة ، ومواجهة ديكتاتورية وقهر مراكز القومي .

ويؤكد د. عمر دوارة ، أن ” فرقة المسرح الحر ” التي تأسست في سبتمبر 1952 كانت أولى الفرق التي عمدت إلى تقديم مسرح مختلف يتناسب مع أفكار ثورة يوليو المجيدة ، ولذا فقد اتسمت أول عروضها بالطابع الوطني الحماسي ، وذلك حينما بادرت بتقديم مسرحيتي ” الأرض الثائرة ” و” الرضا السامي ” .

المسرح الواقعي 

وظهرت مدرسة” المسرح الواقعي ” وكان رائدها ” نعمان عاشور ” والذي قدم نصوصه باللغة العامة المصرية وجاءت شخصياته من الواقع ومن أبناء الطبقة المتوسطة في المجتمع المصري ، وهذا ما نلحظة في مسرحياته ” عيلة الدوغري” و” الناس اللي تحت ” و” الناس اللي فوق ” و” بلاد برة ” و” الجيل اللي طالع” ولم تكن هذه المسرحيات مجرد عروض للتسلية بل قدمت نقداً لاذعاً للمجتمع ، وانحازت إلى المهمشين والطبقات البسيطة .

وبالمثل جاءت تجربة سعدالدين وهبة خاصة في مسرحياته ” السبنسة ”  و” المحروسة” و” كوبري الناموس ” و” كفر البطيخ ”  .

أما تجربة ” الفريد فرج ” فاستلهم فيها التراث ليقدم رؤية نقدية للسياسة المعاصرة وهذا ما رأيناه في مسرحياته ” حلاق بغداد ” و” على جناح التبريزي وتابعه قفه ” .

وجاء أعمال يوسف إدريس لتؤكد فكرة الحرية خاصة ” الفرافير ” و” ملك القطن ” و” جمهورية فرحات ” .

ولا نستطيع أن ننسى تجربة ” نجيب سرور ” التي انحازت إلى البعد الشعبي خاصة مسرحياته ” ياسين وبهية ” و” أه ياليل ياقمر ” و” قولوا لعين الشمس ” و” منين أجيب ناس ” .

كما قدم صلاح عبد الصبور أهم تجارب المسرح الشعري في التاريخ المسرحي المصري من خلال مسرحياته ” مأساة الحلاج ” و” الأميرة تنتظر ” و” مسافر ليل” و”عندما يموت الملك ” و” ليلى والمجنون ” .

ولم تكن نهضة المسرح المصري من فراغ فقد استفاد المسرح كثيرا من دعم ثورة يوليو ، مما جعله يقوم بدور تنويري مهم في الحياة المصرية ، وإن ساهم هذا المسرح في الترويج لمبادئ الثورة .

الثقافة للجميع 

وكان لإنشاء وزارة الثقافة دور مهم في نشر الثقافة على امتداد ربوع الوطن ، وقد قام د.ثروت عكاشة ـ أول وزير للثقافة ـ بدور رائد في هذا المجال ففي عهده تم إنشاء ” الثقافة الجماهيرية ” والتي بدأت فكرتها منذ أربعينيات القرن الماضي على يد المفكر أحمد أمين وكان اسمها وقتها ، ” الجامعة الأهلية ” ، وجاء ” عكاشة ” لينشئ قصور وبيوت الثقافة في الأقاليم المختلفة ، لتصبح الثقافة متاحة للجميع .

وخرج من هذه القصور آلاف الشعراء والروائيين وكتاب القصة والفنانين التشكيليين وفناني المسرح ، وما من أديب مصري إلا وكانت بداياته من خلال هذه القصور.

وفي ستينيات القرن الماضي تم إنشاء ” الدار المسرية للتأليف والترجمة ” والتي تحولت بعد ذلك إلى ” الهيئة المصرية العامة للكتاب ، وكان أول رئيس لها الناقدة د. سهير القلماوي ، وفي 1969 أقيم معرض القاهرة الدولي للكتاب لأول مرة .

هذا هو الجانب الثقافي المضئ لثورة يوليو ، والذي لايمكن أيضاً أن نسينا بعض أقطابها مع المثقفين ، ومنها تحجيم حرية الرأي والتعبير واعتقال عدد كبير من المثقفين كما رأينا في تجريدة 1959 والتي استمرت حتى 1964 ، والتي اعتقل فيها عدد كبير من أهم مثقفي مصر ونفوا في معتقل الواحات ” بالإضافة إلى سجن القلعة و” باب الخلف ” و” الفيوم ” وغيرها .

كذلك كان لظهور مؤسسة المسرح وهيمنتها على كل مقدرات المسرح المصري أثر سلبي على الفرق المسرحية الخاصة والتي أغلقت أبوابها ومسارحها مثل ” فرقة الريحاني ” و” على الكسار ” و” فرقة إسماعيل ياسين ” والتي أعلنت إفلاسها .

وكان لتأميم بعض الشركات الفنية مثل ” مصرفون ” التي أسسها وكان يملكها الموسيقار محمد فوزي ، والتي أممتها حكومة الثورة وأخذتها عنوة من ” فوزي ” بل أهانته كيراً بأن جعلته موظفاً إدراياً بها بمرتب عشرين جنيها شهريا، رغم أن هذه الشركة والخاصة بإنتاج الإسطوانات الغنائية كانت الأولى في الشرق الأوسط وحققت شهرة عالمية .

وكان لهذا الإجراء أثر واضح على تدهور صحة الفنان ”  محمد فوزي” إذ أصابه مرض لم يستطيع الأطباء في مصر والخارج أن يشخصوه ، وظل وزنه يتناقص حتى وصل إلى 30 كيلو فقط ومات ” فوزي ” لتفقد مصر أحد أهم المجددين في الموسيقى العربية .

وتحولت الشركة إلى ” صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات ” والتي لم تقدم شيئاً بعد ذلك للفن المصري .

التعليقات متوقفه