فريدة النقاش تكتب:سعياً لإسلام الأنوار

466

قضية للمناقشة

سعياً لإسلام الأنوار

فريدة النقاش

 

حدث فعلا ما توقعته حين قرأت تصريحات الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” حول استراتيجية محاربة ما سماه “الإنفصالية الإسلاموية” وهي الاستراتيجية التي تنهض على دعوة المسلمين للاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها بدلا من النزعة الإنعزالية، والتي تسارع إلى توزيع الاتهامات بدلا من الدخول في حوار بناء .

وجرياً على عادة المتشددين وضيقي الأفق تعرف الذين ردوا على الرئيس الفرنسي بإعتبارهم هم مالكو الدين الإسلامي، ولا يجوز أن يجرؤ أحد من المجددين أو الغرباء عن هذا الدين – مثل الرئيس “ماكرون” أن يناقشوا مقولاته أو أفكاره الرئيسية .

فماذا قال الرئيس “ماكرون” الذي يحتل الدين الإسلامي الموقع الثاني في بلاده بعد المسيحية، ويتجاوز المواطنون المسلمون فيه الأربعة ملايين .

إستخدم الرئيس “ماكرون” مصطلحات بالغة الدقة تجنباً لأي خطأ أو كلمات غير مقصودة يمكن أن تشعل المزيد من الغضب، واستهدف الرئيس الفرنسي بشكل محدد ما سماه “الإنفصالية الإسلاموية ” التي أعلن الحرب عليها داعياً المسلمين الفرنسيين إلى الإندماج في المجتمع بدلا من العزلة عنه، معلناً أيضاً عن عدة إجراءات سوف تتخذها حكومته في هذا السياق سواء في مجال التعليم أو تنظيم عمل أئمة المساجد وفي بلد تعتبر العلمانية هي أحد أسسها وواحدة من أعلى القيم فيها .

وتعد الحكومة الفرنسية مشروع قانون يعالج هذه القضايا من كل جوانبها، وذلك بعد أن شاع استخدام مصطلح الإنفصالية الإسلاموية، نتيجة لممارسات بعض المسلمين في فرنسا وهؤلاء الذين يعملون على بناء ما يسمونه المجتمع المضاد، والذي قال عنه “ماكرون” إنه “رفض للعيش المشترك” بينما يقول هؤلاء “الإسلامويون” إنهم يؤمنون بالإسلام السياسي، وسوف يعيشون وفق تعاليمه وقواعده المختلفة عن قواعد العيش في إطار الجمهورية العلمانية التي تحتفل بمرور مائة وسبعين عاماً على قيامها، وقال الرئيس الفرنسي عن هذه الأوضاع، ” لن نفسح المجال في فرنسا لمن يسعون لفرض القوانين الخاصة بهم بإسم الدين، وبمساعدة أطراف خارجية” .

وتعد الحكومة الفرنسية قانوناً لمواجهة هذه الظاهرة، بينما فرض وزير الداخلية الفرنسي على كل المقيمين في فرنسا ـ أياً كانت دياناتهم أن يوقعوا “تعهداً باحترام العلمانية” وسوف نلاحظ هنا دقة التعبير إذ أن الوزير الفرنسي يطالب المقيمين باحترام العلمانية ـ أي فصل الدين عن الدولة وعن السياسة، ولم يطالبهم باعتناقها، ذلك أن حرية التدين أو اعتناق الأفكار هي حقوق مكفولة للجميع بمقتضى هذه العلمانية، وهي بذلك مكفولة أيضاً لهؤلاء “الإسلامويين” شرط أن يقبلوه بفكرة العيش المشترك القائم على مبدأ المواطنة، وهو المبدأ الذي يساوي بين الجميع دون تفرقة.

وحين اختار “ماكرون” مجموعة من القضايا بالغة الحساسية والتي تميز “الإسلامويين” وتضعهم، كما يضعون هم أنفسهم خارج مبدأ المواطنة والعيش المشترك، توقف أمام مطالبة هؤلاء بفصل الرجال عن النساء وتنظيم حصص رياضية خاصة بالفتيات .

ومن المعروف أن وضع المرأة وطبيعتها هو من القضايا الشائكة لدى “الإسلامويين” الذي يعتبرون المرأة ـ باختصار كائناً أدنى، كما أنها في حاجة دائمة إلى الوصاية الأبوية الذكورية، وكلها معانٍ وأفكار تجاوزتها أوروبا منذ عصر الأنوار، وقد استخدم الرئيس “ماكرون” في خطابه وهو يفرق بين الإسلام السياسي الإنعزالي والانفصالي وبين المسلمين ـ استخدم تعبير إسلام الأنوار، مسترشداً بتجربة عصر النهضة الذي خرجت أوروبا بمقتضاه من الظلمات إلى النور .

سوف يدور جدل واسع في المجتمع الفرنسي حول خطاب “ماكرون” إذ أن فرنسا، بل أوروبا كلها تتوجس خيفة من تدفق المهاجرين إلى أراضيها، والكثيرون منهم جاءوا من بلدان إسلامية تتفجر فيها نزاعات وحروب أهلية وصراعات طبقية، بل وتتفكك مجتمعات بكاملها، وتتكاثر فيها الجماعات الإسلاموية المتطرفة، وجاء بعضها ردا على توحش سياسات الليبرالية الجديدة، التي أفقرت المزيد من مواطني هذه البلدان، ودفع بهم الفقر وتقييد الحريات إلى أحضان هذه الجماعات.

لن يكون هذا الجدال في فرنسا هو الأخير حول الموضوع، ولنتذكر أنه قبل سنوات أصدرت السلطات الفرنسية قراراً بحظر الرموز الدينية في الأماكن العامة بدءًا من حجاب النساء ونقابهن وصولا إلى غطاء الرأس للسيخ ومرورا بالصلبان المسيحية الكبيرة، وحينها أيضا ثارت ثائرة الإسلامويين حتى أنها حجبت عن الجمهور الواسع حقيقة أن هناك رموزاً أخرى ممنوعة غير الحجاب والنقاب .

ولعل هذا الجدال أن يكون حافزاً لنا لإجراء بحث ونقاش أوسع حول تجديد الفكر الديني، التجديد الذي كان ولا يزال، واحداً من القضايا الأساسية الكبرى لحداثتنا وتطورنا، ولطالما نجحت القوى الرجعية التي تتستر بالدين في الإبقاء على الجهود الشجاعة في هذا الميدان على الهامش، ومنع تقدمها إلى المتن، وكان خروج ما يزيد على الثلاثين مليون مواطن ومواطنة في مظاهرات عارمة في 30 يونيه 2013 ضد حكم جماعة الإخوان الإرهابية فرصة نادرة لطرح قضية تجديد الفكر الديني مرة أخرى، لكن المثقفين، وبينهم رجال الدين المستنيرون أفلتوا هذه الفرصة وإنشغلوا بقضايا أخرى، وربما قد آن الأوان، الآن في ظل بيئة شعبية مواتية بعد أن فقدت الغالبية ثقتها في جماعة الإخوان لأن نعيد طرح هذه القضية ـ أي تجديد الفكر الديني باعتبارها إحدى أولوياتنا وننقلها إلى المتن .

التعليقات متوقفه