د.عبد الفتاح مطاوع رئيس قطاع مياه النيل الأسبق يكتب: عن آبي أحمد وقبائل إثيوبيا وسد النهضة

1٬085

لمن لا يعلم، شهدت العلاقات المصرية الإثيوبية حالة من الازدهار غير المسبوق في نهاية التسعينيات من القرن العشرين، وبدايات القرن الحادى والعشرين في الألفية الثالثة، و لم أكن مشاركاً و مشاهداً فقط، بل و صانعاً لهذه الحالة التى اختفت لأسباب عديدة، كنا في مصر و كانوا في إثيوبيا مسئولين عن تدهورها.

شهر العسل :
خلال تلك الفترة التى سميتها فترة شهر العسل في العلاقات المصرية الأثيوبية، مقارنة بما قبلها وما بعدها، و أثناء أحد الاجتماعات أساسًا للوفود الفنية المصرية الأثيوبية المشتركة، بقاعة ملحقة بمكتب وزير المصادر المائية الأثيوبي، لمحت بعيني شاباً مشاركاً بالاجتماع قليل الكلام عند مخاطبته، كما استرعى انتباهي أنه يلبس جاكت بدلة لونه مستردة، و يكسو أعلى شفته شارب و أسفل ذقنه شعر لحية متصلان بخيط رفيع من الشعر، فما كان علىّ سوى سؤال زملائي و أصدقائي من الأثيوبيين الحاضرين للاجتماع عمن هو هذا الشاب؟ .

قبيلة التيجراي:
قيل لي آنذاك و حسبما سمعت منذ حوالي عقدين من الزمان، أن اسمه أتو أبو أحمد، و أتو معناها السيد باللغة الأمهرية، و أنه يعمل بأحد الجهات السيادية بدولة إثيوبيا، عندما كان الراحل ميليس زيناوي رئيساً لوزراء إثيوبيا، و أصول زيناوي من قبيلة التيجراي ذات الأقلية السكانية، و التي حكمت صفوتها دولة إثيوبيا لمدة عقدين من الزمان، و كان يأتي منها كل من وزير الدفاع و وزير الخارجية عند أي تشكيلة حكومية، و ذلك لأن التيجراي هم الذين حملوا السلاح لمواجهة الراحل مانجستو رئيس وزراء إثيوبيا و إزاحته من الحكم بعد حرب أهلية طاحنة طوال حقبة الثمانينات، التي شهدت أسوأ علاقات مصرية أثيوبية.

قبيلة الأورومو:
مرت الأيام و السنون و إذا بصورة الشاب كما هي و لكن في موقع جديد في العام ٢٠١٨، و بدأت أدقق في سماع الإسم، فوجدته آبي أحمد و ليس اسمه أبو أحمد كما سمعته من قبل، و يلبس بدلة و كراڤت، و هو أول رئيس وزراء إثيوبي من قبيلة الأورومو ذات الأغلبية السكانية من الفقراء الإثيوبيين الذين رحبوا في البداية بمجيئه، أما الآن فهو في دائرة شكوكهم، بعد اغتيال مطربهم المحبوب بواسطة السلطات.

قبيلة الأمهرة:
حصل آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام لأنه حقق سلاماً بينه و بين الجارة دولة ارتيريا، بعد حرب ضاع فيها عشرات الآلاف من الضحايا، في نفس الوقت الذي تتهمه قبيلة التيجراي بأن هذا السلام كان لإضعافهم أمام دولة أرتيريا، التي تشاركهم الحدود السياسية.
و فى بدايات شهر نوفمبر ٢٠٢٠ الجاري، قرر آبي أحمد شن الحرب على قبيلة التيجراي و هو يلبس بزته العسكرية، و قام بتعيين وزير دفاع جديد من قبيلة الأمهرة، التي تحتل المرتبة الثانية في التركيبة السكانية، و كان منها الراحل الإمبراطور هيلاسلاسي، الذي حكم إثيوبيا لعقود طويلة قبل أن ينقلب عليه مانجستو، و هم من السكان الذين حصلوا على قدر من التعليم، و بينهم و بين قبيلة التيجراي عداء شديد، و يتهمونهم بأنهم رجال عصابات، في حين أن التيجراي يتهمون الأمهرة بأنهم قطاع طرق.

توزيع دم سد النهضة بين القبائل:
للأسف الشديد تلك هي خريطة القبلية و العنصرية و الحرب الأهلية تعود من جديد لإثيوبيا، في ظل أمطار كثيفة و فيضانات مدمرة بروافد نهر النيل، أشبه في آثارها السالبة بموجة الجفاف التي شهدتها إثيوبيا في الثمانينيات من القرن العشرين، يتزامن معها وباء كورونا المستجد، و الأوبئة المزمنة كالجراد و الملاريا و الكوليرا، و موجات من النازحين و اللاجئين، و مئات الآلاف من المتلقين للمعونات الغذائية.
فإذا كان قد تم تأجيل الانتخابات البرلمانية الإثيوبية بسبب وباء كورونا، و لم يتم ظهور الأثيوبيين في فبراير الماضي للتوقيع على وثيقة واشنطن لسد النهضة بسبب كورونا، فما بالنا بالحرب الأهلية التي بدأت رحاها، متى تنتهي؟ خاصة بعد محاولات إقليم التيجراي إعلان الانفصال؟ وبعد عمليات القصف التي ينفذها الجيش الإثيوبي ضد الإقليم؟ وما تأثيرها على المفاوضات الجارية؟ والتي يرعاها الاتحاد الأفريقي حول سد النهضة؟.
إن معرفتي بإثيوبيا، ومعايشتي للعديد من الأثيوبيين، و العديد من مواطني دول حوض النيل، تدفعني نحو التركيز على خطورة تلك الصراعات القبلية التي اندلعت، والتي تفتح أبواب الحرب الأهلية في أثيوبيا، ما لم تظهر سريعاً قيادات إثيوبية قادرة على وقف حالة التدهور والاندفاع نحو الحرب القبلية.

و بناء عليه:
و بناء على ما سبق، أستطيع أن أقول أن مشكلة المفاوضات الراهنة حول سد النهضة، تعود إلى أنه لا يوجد الآن في أثيوبيا، ذلك السياسي الأثيوبي القوي و الشجاع، المتوافق عليه من الأثيوبيين، بقبائلهم المتعددة، التي تصل إلى حوالي ٨٠ قبيلة و أكثر من مائة لغة، ولا يوجد القائد القادر على الوصول إلى صيغة للاتفاق حول ملء و تشغيل سد النهضة، في إطار اتفاق قانوني ملزم، و آلية لفض المنازعات حال حدوثها بالمستقبل.
و بناء عليه لابد من استراتيجية جديدة للتعامل مع مفاوضات سد النهضة، تأخذ في اعتبارها تلك الأوضاع الجديدة.

*بقلم :د.عبد الفتاح مطاوع رئيس قطاع مياه النيل الأسبق 

التعليقات متوقفه