فريدة النقاش تكتب:جزيرة اليوم السابق

528

قضية للمناقشة

جزيرة اليوم السابق

فريدة  النقاش

استعير هذا العنوان من ما كتبه “محمد الرميحي” عن ما سماه بحرب الاسترداد الثقافية، ففي سياق مناقشة مع أصدقاء من المثقفين كنت قد تطرقت إلى الأسباب التي أدت إلى ما كان قد حظى به “الإخوان المسلمون” من دعم شعبي واسع في الفترة منذ تأسيس الجماعة في بداية القرن العشرين وحتى انتفاض الشعب ضدهم في الثلاثين من يونيه 2013 بعد أن قضوا عاما كاملا يحكمون البلاد، وفي هذا العام اكتشف المصريون حقيقتهم، وسقطت أسطورتهم .

وكنت قد توصلت إلى أن أحد الأسباب الجوهرية في ذاك الدعم الشعبي القديم إضافة إلى تجذر الثقافة الدينية في الوجدان المصري والعربي عامة، هو ـ أي السبب ـ إغراء العودة إلى عصر ذهبي وجد في الماضي وقدمت الجماعة وكل من لف لفها نفسها باعتبارها حصان العودة المنشودة إلى العصر الذهبي، وأخذت تحشد قواها وبدعم من حلفائها وممولها لإعداد أعضائها وأنصارها لليوم الموعود، وهو اليوم الذي استعدوا له بتغيرات شكلية خاصة في الملبس .

وبني “الإسلامويون”  كل روايتهم على تعظيم هذه الأسطورة، وأسسوا مشروع العودة إلى الدنيا التي يبشرون بها على هذا العصر الذهبي المتخيل، والذي ربطوا بينه وبين الدين .

وكان مفكرون وباحثون في علوم التاريخ والمجتمع قد توافقوا من قبيل الإعزاز لديننا على اعتبار كل ما وجد قبل الإسلام جاهلياً، وشاع مصطلح العصر الجاهلي، ومؤخراً جدا فقط إنتبه مفكرون وعلماء آخرون إلى عدم دقة هذا الوصف، وأخذ هؤلاء يفتشون في الوثائق والوقائع وتاريخ الشعوب والبلدان والثقافات والديانات حتى بلوروا رؤى وأفكارا جديدة عن عصور ما قبل الاسلام، بل وقبل كل الديانات  الإبراهيمية ليدحضوا ثبات الأفكار الموروثة من عصور الزهو الإسلامي عن العصر الجاهلي .

وكثيرون ـ وأنا منهم ـ يرون أن السقوط المدوي “لجماعة الإخوان” بعد العام الذي حكمت فيه مصر يتضمن في العمق تعرية لأسطورة العصر الذهبي، ووعود الجماعة باستعادة هذا العصر المزعوم حريا إلى الماضي، وكان أن فشلت الجماعة في التعامل مع العصر الراهن الذي تعيش فيه، فضلا عن الفشل التراجيدي في العودة إلى الماضي الذهبي، وهي بطييعة الحال عودة مستحيلة إذا قرأنا جيدا دروس التاريخ فضلا عن وقائعه .

وتدلنا القراءة المتأنية لإنتاج المدارس الفكرية السياسية العلمانية الشائعة، والتي لا تنطلق من الدين وإن كانت لا تكف عن إعلان وتأكيد احترامها له ـ دلنا على أن هذه المدارس وفي العمق منها تحتضن، ربما في اللا وعي ـ فكرة العودة لعصر ذهبي ما العودة لماض مجيد توفرت فيه كل مقومات السعادة للبشر كافة دون تمييز، أو هكذا يتصورون .

حدث ذلك كله لتهدئة القلق المضنى أثناء بحث الانسان منذ دب على الأرض عن معنى للوجود، وعن طرائق لمواجهة الموت، فنشأت في حضارة مصر القديمة فكرة العالم الآخر التي رافقتها منظومة هائلة من الأفكار والنظريات والابداع الأدبي والفني فضلا عن البناء المادي الشامخ الذي أهدى للإنسانية بعض أجمل المعابد والآثار التي مازال المصريون يكشفون عنها حتى الآن .

وربما يجد الباحثون والمفكرون والأثريون تبريرا قويا لشغف الشعوب ذات الحضارات القديمة بماضيها، وشعورها بالعجز إزاء عظمته لتكون فكرة العودة إليه هي مصدر الإلهام لبناء مستقبل يليق بهذا الماضي العظيم، ويتلون تفكيرها دون قصد بالإنسحاب إلى الماضي البعيد .

فماذا عن الحاضر ؟ سوف يفرض هذا السؤال نفسه على كل الحالمين بالعودة إلى ماض لا يعود، هؤلاء التواقون “لاسترداد” ما كان، فهم أمام معضلة كبيرة إذ أن التقدم المذهل الذي عرفته البشرية عبر القرون والحضارات والثقافات والديانات، يفتح آفاقاً لا محدودة للتطور الحر لكل جماعة ولكل فرد على حدة .

فما الذي يعوق مثل هذا التطور يا ترى ؟ سوف أتوقف أمام مسألتين اعتبرهما أساسيتين ضمن منظومة الإعاقة، الأولى هي الحريات العامة والتي تتعرض للحصار ويشكل إطلاقها خوفاً مقيما لدى سلطات الاستبداد، ويؤدي حصارها إلى قمع الخيال، والمسألة الثانية هي منظومة الاستغلال التي تقوم على التقسيم غير العادل للثروة، ومن ثم احتكار السلطة الذي يفضي إليه تركيز الثروة، ويلقي بالملايين في قبضة الفقر والضياع .

وإذا توقفنا أمام قمع الخيال سوف نتبين كيف أن العودة إلى الماضي هي الحل السهل لمعضلة الوجود الذي تكبله القيود، أخشى أن يرى البعض في مثل هذه العودة إلى الماضي علاجا متاحاً وبسيطا لمشكلات الحاضر التي تتضمن مواجهتها مخاطر جمة، وتدفع هذه المخاطر جموع البشر إلى الوقوع في الصراع والتناقض بين الماضي والحاضر بحثا عن جزيرة يهدأ فيها الإنسان القلق على مصيره وهو يبنى مستقبله .

 

التعليقات متوقفه