أمينة النقاش تكتب:عن الفتى جاسر عبد الرازق

1٬454

 ضد التيار

عن الفتى جاسر عبد الرازق

أمينة النقاش

يمكث فى ذاكرتى اسم “جاسر”منذ فتنتنى فى بدايات الصبا والشباب ،مسرحية عبدالرحمن الشرقاوى  الشعرية “مأساة جميلة “. كانت المسرحية كما يبدو من اسمها ،عن  كفاح المناضلة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسى “جميلة بوحريد ” التى كانت أيقونة لمعظم جيلى، ورمزا  للبطولة والجسارة والصبر على الأذى وتحدى جبروت قوة ظالمة تسعى لقهرها ،بعد أن نجحت بصمودها  الأسطورى ومحاكمتها الشهيرة  ، فى الكشف للمجتمع الدولى عن عدالة ما تنطوى عليه  المقاومة المسلحة  ضد احتلال  استيطانى  من حقوق فى التحرر والاستقلال والكرامة  الوطنية . وكم كنا جيلا محظوظا حقا ، لمعاصرتنا للصعود المبهر والملهم لحركات التحرر الوطنى فى منطقتنا العربية وفى أنحاء العالم ، حيث كانت الحدود بين الخيط الأبيض والخيط الأسود فاصلة وواضحة المعالم، وكانت قضية استقلال الجزائر فى القلب منها .

جاسر “كان هو اسم  المناضل الجزائرى،  بطل مسرحية عبد الرحمن الشرقاوى  الذى أحبته جميلة ورافقها فى رحلة النضال ضد الاستعمار الفرنسى .وكان الشرقاوى واحدا من ثلاثة شاركوا فى كتابة فيلم  يوسف شاهين “جميلة” بجانب نجيب محفوظ وعلى الزرقانى ،والذى تم عرضه قبل أن يخرج المسرحية حمدى غيث للمسرح القومى . لكن يظل لوقع تقديم البرنامج الثانى فى الإذاعة-تغير اسمه الآن إلى البرنامج الثقافى -لمسرحية الشروقاوى تأثيرا مختلفا لايزال  محفورا فى الذاكرة ربما أكثر مما أحدثته  القراءة والمشاهدة .إذ اجتمعت  فى  النسخة الإذاعية  للمسرحية التى أخرجها “محمد الطوخى”باقة من قامات المسرح المصرى بينهم سميحة أيوب وسناء جميل وعايدة عبد العزيز ،وعبدالله غيث وشفيق نور الدين ومحمد السبع وعبد الرحيم الزرقانى وغيرهم ،وبات على البهجة أن تكون حاضرة مع الاستماع لمسرحية شعرية بلغة عربية رائقة وصافية ،وقدرة فذة على التعبير الصوتى ، المتعدد والمتناغم  تؤثر وتلهم و تسلب العقول وتدفئ القلوب وتنقى الروح وتشعل الخيال .

كان الفتى جاسر عبدالرازق أنذاك ، جنينا فى بطن أمه ،حين اقترحت عليها الاسم  إن كان ولدا تيمنا ببطل المسرحية .ومن المفارقات المدهشة ،أن جاسر قد ولد فيما بعد فى الجزائر ، حين لحقت أمه بزوجها ،بعد أن تمكنت نغمة الصوت الواحد والرأى الواحد ، التى كانت سائدة، فضلا مستشارى السوء من صناع الطغاة،  من أن تغلق فى وجهه سبل العيش فى مصر،فغادر إلى الجزائر مشاركا فى تحرير جريدة المجاهد الجزائرية .

عاد جاسر مع أسرته إلى القاهرة  وهو فى السنة الثالثة من عمره طفلا جميلا ،بهى الطلعة ترتسم على قسمات وجهه ابتسامة ساحرة ، ظلت ملازمة له لم تغادره ابدا بعد ذلك ،فى أوقات الشدة كما فى أوقات الفرج.

لم يعش جاسر حياة مستقرة ، فما أن طرق أبواب الصبا ، حتى التفت ليجد أبويه يخرجان من البيت إلى السجن ،وتغلق أمامهما مرة أخرى فرص العمل والعيش الكريم ، وفى ظل خدوش النفس والروح ،بدأ وعى جاسر فى التشكل ،ولم يكن غريبا أن يكون  وعيه مثقلا برفض جذرى لكل انتهاك يمس الحق فى الحياة الحرة الكريمة ، ولكل ما يكبح جموح العقل وتحرير الإنسان .لهذا أضحى ذلك الرفض هو المكون الرئيسى لشخصية جاسر فى حياته الشخصية و العملية .ولعل شخصيته الغيرية الآسرة المفعمة  بالمحبة  للوطن وأهله ، والمترعة بالصدق والاستقامة والحيوية هى ما دفعه دائما أن يكون حاضرا حين يحتاجه الآخرين ..إجماع فى المحيط الاجتماعى والفضاء العام على محبته ،حتى صرت اتساءل بفرح “مين ما بيحبش جاسر”.

جاسر هو جزء من جيل  واسع من الشباب مثقل بعلامات استفهام لا حصر لها ،تشكل وعيه العام فى الألفية الجديدة ، لا يمل من السجال ، ولا يكف عن المناقشة ولا يتوقف عن الاعتراض، وهو يرفض التسامح مع زمن الأخطاء ، ويسعى بمحبته القاسية للوطن أن يحرر مجتمعه مما  يرى أنه يعوق حركته صوب المستقبل ،وفق رؤية قد لاتحظى بإجماع شرائحه، وقد يغيب عنها أن المسكوت عنه أحيانا قد تكون أشياء جلل لا نعرفها .

وبدلا من الاستخفاف بمشاعر هؤلاء الشباب والسعى غير المجدى  لتأديبهم،فإن المهمة الأصعب للقائمين على الأمر ،هى السعى لاحتواء هؤلاء  الشباب ، وفتح المنافذ لهم للتعبير عن قلقهم  وتمردهم واستيعاب مبررات غضبهم  ، بدلا من فتح أبواب السجون ، التى تزيد الطين بلة ، وتهيئ مناخات الجموح والتشدد ، وتوغر الصدور بالمرارة والضغائن والآسى ،وتجعل ضيق الصدور وغلق العقول وقسوة القلوب هى التى تتحكم فى المشهد السياسى بديلا عن سياسة الاحتواء .

وتلك مهمة صعبة لكنها ضرورية وغير مستحيلة ، وهى خطوة يمكن بناؤها بالحرية لجاسر عبد الرازق وكل سجناء الرأى .

التعليقات متوقفه