مشهد من رواية “موال الوصل والوجع ” لـ”أميرة بهي الدين”

يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com

200

مشهد من رواية “موال الوصل والوجع ” لـ”أميرة بهي الدين” / مصر

 فقاعات ملونة 

ليس مُهمًا اسمي أو موطِني أو كيف عِشتُ .. المُهم كيف قُتِلتُ؟؟

هذا الجزء الأخير مِن حكايتي هو الذي سيهم الجميع، كيف قُتِلتُ؟؟ 

أَمّا كيف عشتُ وكيف كانت حياتي فأحدٌ لن يهتم، والحق لا يوجد في حياتي كلها أي شيء خاص يشد الانتباهَ والاهتمام إلا لحظة موتي، وربما ما قبلَها بقليلٍ مِن الزمن والتفاصيل، كيف قُتِلتُ، هذا هوَ المُهم!! 

قُتِلتُ في البلاد الغريبة التي لا أعرفها، البلاد الفلكولورية التي وشمَ التاريخُ ضفافَ نَهرَيْها بالقصص والأساطير وحكايات التراث، البلاد الغريبة التي جئتُ إليها لأموت على أرضها غريبًا لا أحد يعرفني ولا أحد يَبكيني ولا أحد يتذكرني، لستُ إلا أجنبيًا غريبًا مات في أرضٍ لا تعرفه ولا يعرفها ..

كيف قُتِلتُ؟؟ 

قُتِلتُ وأنا أرتدي بَذلة برتقالية بقماشٍ خشِن بعد ما خلعوا عن جسدي كل ملابسي الداخلية الرثة وسخِروا مِن بطْني المُدَلاة أمامي ومن ساقَيّ الرفيعتيْن وركبتَي المتيبستيْن مِن طول الرقاد، سخِروا مِني وكأنهم بَشر يتضاحكون، وكانت مفاجأتي كبيرة لأنهم استردوا – فجأةً – بعضَ ملامح الإنسانية التي كنت أعرفها قبلَما أُحتَجَز في جُبِّهم طويلا ناسيًا مَنسيًا، سخِروا مِني ولمعتْ عيون بعضِهم بالابتسامات المتوارية التي سرعان ما أطفأوها خجَلا مِن بقايا المشاعر الإنسانية التي داهمتهم وأسقطت عن وجهوهِهم الأقنعةَ السوداء المخيفة التي طالما أرعبوا الآخرين بها، لكنهم سرعان ما وَأَدوها إنكارًا وغِلَظَة.. 

في الصباح الباكر أجبروني أن أرتدي تلك البَذلة البرتقالية بعدما بقيتْ بجواري يوميْن أُهمِلُها مِثلما يهملونَني، والحارس يمُر صباحًا ومساءً يأمرني بارتدائها فأتجاهله ساخِرًا مِنه، فما الذي سيفعله بي أكثر مما بي؟ لكن اليوم وقت الهزل مَر وأتي الجِد ووقته، أجبروني أن أرتدي البَذلة البرتقالية الكريهة، وقبلَ أن يُحكِموا أزرارَها على أنفاسي وَخَزوني بحقنةٍ صغيرة تحت جِلدي، تأوهتُ مِن ألمِ الوخزة وسرعان ما اجتاحَتني السعادةُ الجارفة وتقافزت أمام بَصَري فقاعاتٌ ملونة، وانسابت موسيقى غريبة في أُذُني وكِدت أحلّق فرحًا في السماء، بل وأكاد أقول إني تمايلت على نغمات تلك الموسيقى أطارِد الفقاعاتِ الملونةَ التي تومِض في عيني … 

هل ما أسمعُه هو الموّال الموصلي الجميل الذي طالما غمغمَ روبرت بنغماته وهو يحكي لي موت الموصلية الجميلة حسناء، وبقية الموال علي شفتيها وأطراف حنجرتها؟ لا أعرف، كل ماا أعرفه أن موسيقى ملائكيةً جميلة لفَّتنِي ولفّت الكونَ كله حولي وأنا بالبَذلة البرتقالية أنتظِر الموت … 

في تلك اللحظة، والمادة الكيميائية الساحرة تَسري في روحي، حدقتُ في عيونهم، في عيون القتَلَة المُجرمين، وجدت أرانِبَ فزِعةً فارّة مِن رصاص الصيادين الذين يحاصرونهم في الغابات الشاسعة بالموت، رأيت بعض الإنسانية المختبئة خلْف العيون الزجاجية والغِلَظة والصرامة، ضحكتُ وضحكتُ وانعقدت الابتسامة على ملامحي وكأني سعيدٌ لأنهم سيقتلونني، الحق كنتُ سعيدًا لأني وفي النهاية وبعد طول عذابٍ سأُغادِرهم وأُرحَم مِن وجوههم وملامحهم القاسية ولو بالموت ….

الحق كنت سعيدًا أنهم سيقتلونني، المادة الكيميائية الغريبة التي سرتْ في عروقي حوّلتني مِن أسيرٍ غاضبٍ لحُرٍ متمردٍ أرعنَ وكأني مهرّج السيرك يجري على ذراعيه، وساقاه تتأرجحانِ في الهواء، تلك المادة التي لا أعرف اسمَها وأتمنى أن أعرفَه، أبعدتْ عن قلبي الانقباضَ الموحِش الذي أدمنته منذ ذلك اليوم الأغبر الذي وقعتُ فيه في قبضتِهم، أبعدتْ الانقباضَ وطهرتْ روحي من الرعب المخيف الذي تَملّكها، وحرَّرَتْني فصِرتُ قتيلا حُرًا مستعدًا للموت الجميل بدلا مِن الانتظار الصدِيء الرتيب الذي رسخَ على قلبي طويلا … 

لماذا لم تحقنوني بتلك المادة مِن البداية؟ بل لماذا لم تقتلوني مِن البدايه؟ لا تقولوا لي أعذارًا واهية، أُحدّثهم بصمْتي وأضحك وكأنهم يسمعون صوتَ خرسي، لا تقولوا لي إنكم احتجزتموني متصورين أنكم ستفلحون في أن تُجبِروا السيدَ الرئيس ليتفاوضَ معكم، فهو أبدًا لم ولن يتفاوض مع إرهابيين، لا تقولوا لي إنكم استبقيتموني متصورين أن عشقيتي البليدةَ مارلي ستبيع البيتَ والكَلب وتمنحكم ثمنهما ليعوضكم خسائركم التي تَكَبدتموها وأنتم تطعمونني وتحرسونني وتضربونني وتدفعون للقَتَلة والحُراس والمجرمين أجورهم ورواتبهم لينكِّلوا بي وليحتقروني وليهدِروا إنسانيتي وكرامتي، لماذا لم توخِزوني بتلك المادة العجيبة منذ البداية؟ ولماذا لم تقتلوني منذ البدايه؟ ظللتُ أُحاورهم في تلافيف رأسي والجُمَل والعِبارات تتطاير وتصطدم بين جنبات جمجمتي، والفقاعات الملونة تطاردهم وتلوّن وجوهَهم وتفسِد أقنعَتَهم السوداء ورعبها، وابتسامة معقودة علي وجهي تستفِزهم .. أو هكذا ظننتُ ..

كيف قُتِلتُ؟؟

قُتِلت بطريقةٍ بسيطة كما سأقُص عليكم، مَن أنا لأُقَص عليكم إذا كنتُ قُتِلت؟؟ أنا الذي فررتُ مِن نَصلِهم فلم يُمِتْني وبقيتُ حيًا بعد قتْلي، مزقوا الجسدَ الذي كنت أرتديه، والملابس البرتقالية تلطخت بالدماء الساخنة، وملامحي انبعجت أكثر وأكثر، والابتسامة المعقودة على وجهي سقطت على الرمال الساخنة تحت قدمَي بعدما تهاوَى الجسد النحيل حينما انفجرتْ شرايين رقبتي بدمائها وقتما وخَزَها هذا المبتدئ بنصلِه وشَقَّهَا مِن الوريد للوريد، في تلك اللحظة التي ذبَحني فيها هذا المتوحش القاتل، تحررتْ روحي وحلّقت بعيدًا عن مسرح جريمتِهم وتهاوَى الجسدُ النحيل على الأرض ومعه ابتسامتي وبقايا المادة الكيميائية التي أبقتني خانعًا راضيًا راضخًا لأنصالِهم وكأني أستحِق الموتَ الذي يعاقبونني به، هذه هي الصورة التي يصدّرونها للعالَم كله عنهم وعنّا، نحن – أقصِد هُم – نحن القتَلَةَ العادلين وأنتم – أقصِد نحن – المقتولين الراضين المستحقين للعقاب والموت، نحن الذين ننفّذ الموتَ العادل، وأنتم الذين تلقون مصيرَكم الذي تستحقونه، نحن علي حق وأنتم علي باطل، لذا نحن نقتلكم بمنتهى الزهو، وأنتم تموتون بمنتهى الخنوع، هذا كله يفرضونه عليّ وعلى كل مَن قتلوهم بتلك المادة الكيميائية الرائعة التي ادَّخَروها بمنتهى البُخل للحظة الأخيرة لحياتي، وكنت أتمنى أن أعيش كل أيامهم وأنا أهذي فرحًا بتلك الرأس العالية التي منحوها لي مكأفأةَ قتْلي …

قُتِلتُ وأنا أُغنّي الموَال الموصلي الجميل، والكونُ كله يغنّي، وابتسامة ساخرة على وجهي، والموت لا يخيفني ولا هُم أيضًا .. في تلك اللحظة قُتِلتُ وتحررتُ للأبد …

مَن الذي يَحكي عني؟ أنا الذي أحكي عني بعدما فررتُ مِن نَصلِهم فلم يقتلوني، أنا الروح التي فرت من الجسد النحيل الذي كان لي، ولاحظت وقت فرارها بعيدًا عن عبث الجنون، لاحظت الكاميرات التي كانت ترصد وتسجّل قتْلي ثانيةً بثانيةٍ وشاهدت العدسات تقترب مِن الشرايين المتفجرةِ بالدماء، وتسجّل انتفاضاتِ الجسد النحيل وأنا أنسحِب مِنه وبسرعةٍ قبلَما يأٍسرني معه وسط الرمال المتحركة، شاهدت المُخرِج وهو يصرخ في القاتل ليسرِع وينتهي مما يفعله، ويصرخ في عُمّال الديكور لأنهم لم يلطخوا الأرض بدماء كافية تثير الرعبَ في نفوس المتفرجين الذين يهدف المُخرِج لإرعابهم ودَبِّ الخوفِ في قلوبهم، أنا شاهدتُ كشّافاتِ الإضاءة تسلّط علي ابتسامتي التي تهاوت على الأرض تلتقط آخر ملامحها قبلَما تدفنها الرمال الدامية تحت ذراتها المشحوذة، كل هذا شاهدته وأنا أُحلّق بعيدًا عن كل هذا الجنون والرعب ..

علِّي أعترف لكم أن أسعد لحظات حياتي كانت تلك اللحظة التي اندسّ فيها النصل المشحوذ بيدِ البليد المبتدئ بين طبقات جِلدي ولحمي ووسط عروقي وشراييني وأوردتي، كانت تلك لحظةَ السعادة، تحررتُ مِن جنونهم وعبثِهم وإجرامهم، ونسيتُ عشيقتي وكَلْبي والسيدَ الرئيس، ولم أَعُد أكترث باللقطة التي فرت مِني، ولا بالجائزة الأولى التي حلُمتُ بها ولم أحصل عليها، ولا تذكرت كاميراتي الأنيقة التي سرَقَها المجرِمون وقت اختطافي، وتحررتُ مِن حزني على النساء الأسيرات في الجنازير الحديد، والأوشحة السوداء تُخفي جمالَهن البريء المتوحش، ونسيتُ حسناءَ وزهراءَ وأحلام وكلَّ الموصليات الجميلات اللاتي صادفتُهنّ في رحلتي الغريبة، كل هذا نسيتُه ولم أعُد أرغب إلا في اللحاق بالفقاعات الملونة التي انبعثت مِن خلف مقلتَي لأمامِهَا تلوّن الحياةَ بألوانٍ مبهِجة بعد طول سوادٍ واصفرار وكأبة، كانت هذه أسعدَ لحظاتِ حياتي وقتَما قُتِلتُ وانتهى الأمر حينما صرخ المُخرِج ستوب، فتوقفتْ الحياةُ وشريط الفيلم واللحظة ..

دَعوني أُخبِركم سِرًا، إن قاتِلي وبعدَما انتفض جسدي النحيل تحت يديه وفَر مِن قبضته، وتساقَط تحت قدميه وحنجرتي تحشرجت بأصوات غريبة، ولعابي سالَ على نصْلِ سلاحِه، ومقلتايَ جحظَتَا وكادتا أن تسقطَا بين أصابعه، في تلك اللحظة ارتبَكَ قاتلي وكأنه تمنّى أن يقذِف النصلَ بعيدًا ويفِر، لكن المادة الكيميائية التي حُقِن بها هو الآخر مثلما اكتشفتُ الآنَ وأنا حرٌ أُحلّق في الفضاء، المادة الكيميائية التي حُقِن بها ثبتَّته على الأرض كأنه منتصِر فخور، ووشمت ملامحه الظاهرة تحت القناع الأسود بقسوةٍ ليست له وغِلَظة غريبه عنه وكأنه قاسٍ وبليد يقتل بلا قلبٍ ولا وجَل، هو حُقِن بمادة كيميائية ليصبح أكثر غِلَظةً وقسوةً وبَلادة وأنا حُقِنتُ بمادة كيميائية لأُصبِح أكثرَ سعادةً ورِضا ورضوخًا، وجميعُنا – يمكنني أن أقول الآن ذلك بمنتهى الأريحية والسعادة – جميعُنا مفعولٌ به كبير في عالَمٍ مجنونٍ يستخدمه ليقتلني، ويستخدمني لأقتله، لنموت معًا كل يومٍ وكل ساعة، ويبقَى آخر حيًا زاهيًا سعيدًا منتصِرًا فرِحًا بموتِنا معًا !!! 

سعادةَ الرئيس، رئيسي ورئيسَ البلادِ التي وُلِدتُ فيها ولم أَمُت على أرضها، رئيسَ العالَم كما كنتُ أظن، رئيسَ النظام العالمي الجديد كما تظن أنت، سعادةَ الرئيس: باللهِ عليك اشكرْ لي مَن صنعوا المادةَ الكيميائية التي حُقِنتُ بها في اللحظات الأخيرة السعيدة التي عشتُها قبلَ قتلِي، اشكرْهم سيدي الرئيس وبلِّغهم حُبّي واحترامي، ولو شئتَ التقِطْ ابتسامتي الدفينةَ تحت الرمال الداميةَ ونِظِّفْهَا وعلِّقْهَا على جدران معملهم ثناءً ومدحًا لكفاءَتِهم وبراعتِهم في اختراع شيء عظيم يجعل القتلَ مناسَبةً سعيدةً تُفرِح القتيلَ وتمنحه وروحَه البراحَ والخلود وتُطلِقه في الفضاء حرًا طليقًا، اشكرْهم سيدي الرئيس .. لماذا أنت؟؟ ولماذا هُم؟ لأني أعرف سيدي أن ذلك التفوقَ العلمي ممهورٌ بتوقيع أُمّتِنا العظيمة وعلمائها العظماء، أعرفُ أن تلك البراعةَ لا تصدر إلا مِن علمائنا الأجِلاء الذين يسخِّرون عِلمَهم لصالح انتصاراتنا العسكرية الرائعة مِن أول القنبلةِ النووية وحتى ذلك السحر الكيميائي العظيم، اشكرْهم يا سيدي الرئيس وامنحْهم ابتسامتي وسامَ تفوّقٍ لأنهم أفلَحوا وسيفلحون دائمًا في أن يجعلوا القتلَ شهيًا لذيذًا مبهِجًا كما شَهِد وسيشهد لهم كلُّ المَقتولين والضحايا، اشكرْهم يا سيدي الرئيس أيضًا لأنهم أفلحو في أن يحوّلوا أُناسًا بُسَطاءَ جهلاءَ لا يحلمون إلا بقوتِ يومِهم البسيط، أفلحوا أن يحوّلوهم لعصاباتٍ مرتزَقة مِن القَتَلة المجرمين يشيعون الرعبَ على ذلك الكوكب البائس الخجِل مِن كل قاطنيه وعلى رأسهم حضرتك سعادةَ الرئيس!! نَعَم كانوا أُناسًا بُسَطاءَ حتى جلبتَ لهُم سيدي الرئيس المدرِّبين والمموّلين والخناجرَ والبِدل البرتقالية وسياراتِ الدفع الرباعي والأعلام السوداء، كانوا أُناسًا بُسَطاءَ حتى جهزتَ سيدي الرئيس أنت وإدارتك ومعاونوك لهُم المسرحَ والديكور والملابس وكتبتَ لهم السيناريو والحوار فصاروا أدواتٍ لتنفيذ فيلمِك الهوليوودي القبيحِ في مدينة الحياة وعلى ضفاف دَجْلةَ، أنتَ سيدي الرئيس مَن صنعتَ إجرامهم ودرَّبتَه وموَّلتَه ومنحتَهم الخنجرَ الذي قتلني وسيقتل كل مَن بَعدي، هل تشعر بالفخر سيدي الرئيس؟ هل تشعر بالفرحة؟؟ افرحْ أكثرَ وأكثر فقدْ نجحتَ تمامًا في تحقيق ما تمنيتَه، نَعَم لم ترغب في موتي، لكنك تلومني أنا لأني ذهبتُ لهُم وعندَهم، لم تقُل هذا طبعًا وأنت جالِسٌ على مكتبِك البيضاوي ولا أمامَ الميكروفونات في المؤتمرات الصحفية، لكن هذا ما تشعر به في أعماق نفسك، تلومني لأني ذهبتُ هناك ومنحتُهم رقبتي ليذبحوها، كنتَ تتمنى أن يذبحوا كل أسراهم عَدَاي، لأني مواطنك الذي ربما يزعجك قليلا موتُه، افرحْ أكثرَ سيدي الرئيس ولا تعبسْ جبينَك كذبًا وكأنك حزينٌ عليّ، لستَ حزينًا ولن تكون، أنت فرِحٌ أن عصاباتِك التي درَّبتَها وموّلتَها ومنحتَها الخناجرَ تُحقق لك كل النجاحاتِ الاستراتيجية التي حلمتَ بها وسعيتَ إليها، أنت سعيدٌ وانا ميت، قتيلٌ تحتَ أقدامهم، لا تجعل موتي يحزنك ولا يفسد فرحَك، وافرحْ أكثرَ وأكثر سيدي الرئيس بنجاحاتك العظيمةِ في البلاد البعيدة التي تلعنك كل يوم ألفَ مرة، وستظل تلعنك مثلما لَعنتْ هولاكو، وتيمورلنك، وبدر الدين لؤلؤ، وكل القَتَلة والخونة والعُمَلاء، وكل مجانين العالَم الذين مَرّوا علي ضَفتَي نَهريْهَا وأراقوا دماءَها وسعَوْا لخرابِها .. 

أُخبِرك سِرًا سيدي الرئيس، البلادُ البعيدة بقيت وستبقى، والموصل مدينة الحياة بقيت وستبقى، ستحارب وتنتصر، وكل هؤلاء المجانين القَتَلة الخوَنة وُصِموا بعارِها في كُتُبِ التاريخ، هنيئًا لك صفحتك الملطخة بدمائي ودماءِ البلاد البعيدة التي جلبتَ لها بديمقراطتينا العظيمة كل النحس والشؤم والخراب ….

كيف قُتِلتُ؟؟ سؤالٌ بريء لطيف ربما يتمنى أحد المراسِلين في أي مؤتمرٍ صحفي يُعقَد بعد موتي سؤالَه لي، لكنه لا يعرف كيف يسألني وأنا ميت، ها أنا أُجيب له عن سؤاله المُحير، قُتِلتُ يا سيدي بسعادةٍ وابتهاج وأنا أُحلّق خلف الفقاعات الملونة بنصلِ مبتدئٍ بليدٍ حوّلته المادة الكيميائية التي حُقِن بها ويحقن بها كل يوم، حوَّلته لمتوحشٍ أَشِر يَقتل وهو لا يعرف قضيتَه ولا يكترث بفهمِها ولا يَفهم لماذا يَقتل ولا مَن الذي يقتلُه، قالوا له اقتُلْ لتنتصِر فقَتلَ وانتصَر حسبما تصوَّر !! 

مَن أنا؟؟ أنا المواطِن الأمريكي الذي تصوَّرَ أنه ابنُ أُمةٍ عظيمة ستحميه أينما كان وإلا فما فائدة الجيوش والطائرات وقوات المارينز؟؟ فاكتشفَ أنها قتَلَته وبلا سبب ولا ذنب، الحق لا ألومُها لأنها قتلتني؛ لأن تلك الأُمة العظيمه قتلتْ كثيرًا مِن أبنائها ولم أكترث وقتَها ولم أَلُمْهَا، كنت أتابِع بليدًا مبارياتِ الكُرَة وأعبث بِشَعر عشيقتي، وكلْبي يلعق قدمَي وأنا في منتهى الرضا والسعادة لا أكترِثُ بمَن مات ولماذا مات، ولم أفكر كيف لتلك الأمة أن تقتل أبناءَها، ولم أُفكر أبدًا أن الدور سيأتي عليّ، ولم أَلُمْهَا طبعًا وقتَها، فكيف ألومُهَا اليوم ..؟! 

الأُمة العظيمة تدافِع عن مصالحها العظيمة ولو بقتل أبنائها، وما الضرر الذي سيلحق بنا ونحن نُقتَل بنصل الأُمة العظيمة مِن أجل الأُمة العظيمة نفسِها؟ ونحن جيَفٌ ستموت على أية حال وفي أي وقت، أُمّتنا العظيمة نظَّمتْ موتنا وحددت موعدَه مِن أجل مصالحنا جميعًا، وقتلتنا بمنتهى الفخر وتَقَبَّلنَا ولم نعترض فكيف أعترِض اليوم؟ أنا المواطن الأمريكي الذي قَتلَته أُمتُه مِن أجل مصالحَ تتصورها، الأُمة العظيمة تستحق قَتْلَى مِن أجلها، ونحن، أنا وملايين الأمريكيين لا نفهم في مصالح الأُمة، ولم نشغل رأسنا بها أبدًا وترَكنا تلك المهمة للسياسيين والسيناتورز والمعارك الانتخابية، والحق أنهم أفلحوا دائمًا في أن يقتلونا من أجل تلك المصالح ولم نعترض ولم نكترث ولم نسألهم ما هي المصالح العظيمة الأغلى مِن حياتنا التافهة؟!! فلِمَ أفعلُ اليومَ؟؟

أنا المواطِن الامريكي الذي قُتِلتُ بيد قَتَلة مجرمين حقنتهم مختبرات الجيش الأمريكي بمادةٍ كيميائية أعطبتْ قلوبَهم وعفّنت أرواحهم وألهَتهم عن لقمة العيش والحياة البسيطة ورحمة الرب، وشغلتهم بحروبٍ دامية ومعاركَ طاحنةٍ لم يفهموها، لكنها قتلوا وسيقتلون مِن أجلها، وفي النهاية سيموتون أيضًا مِن أجلها ..

أنا المواطِن الأمريكي الضحية الذي قُتِلَ بسعادةٍ بنصلِ ضحيةٍ أخرى للمصالح الأمريكية، وجميعُنا راضون راضخون لا نعترض ولم نعترض!!! 

المَجد لمصالح الأُمة العظيمة التي قُتِلتُ مِن أجلِها ..

المَجد للمادة الكيميائية التي حوَّلت قتلِي للحظة سعادة ..

المَجد سيادةَ الرئيس يتمناه لك القاتلون والمقتولون .. فلتعِشْ أنت يا سيدي والأُمة العظيمة .. ولنُقتَل جميعًا ببساطٍة … وفي ستين داهية !!! 

 

التعليقات متوقفه