الذكرى التاسعة والعشرون لتوقيع اتفاقية هدم الاتحاد السوفيتى

بوتين: انهيار الاتحاد السوفيتى أكبر كارثة جيوسياسية فى تاريخ البشرية

329

جورباتشوف ويلتسين يتظاهران بالصراع بينهما وهما متفقان على هدم الاتحاد السوفيتى
المخابرات الأمريكية احتضنت يلتسين عندما سافر لأمريكا ..وجورباتشوف حصل على الثمن جائزة نوبل للسلام
أنفقت الولايات المتحدة 5 تريليونات دولار لهدم الاتحاد السوفيتى

فى الثامن من ديسمبر الماضى تكون قد مرت 29 عاماً على تلك اللحظة التى أعلن فيها ثلاثة من قادة الجمهوريات السوفيتية عن هدم الدولة السوفيتية، والتى وصفها الرئيس بوتين بأنها أكبر كارثة جيوسياسية فى التاريخ.
ففى ذلك اليوم اكتملت ما عرف بمؤامرة بيلوفيجسكى، حيث وقع رئيس روسيا بوريس يلتسين وأوكرانيا ليونيد كرافتشوك، ورئيس مجلس السوفيت الأعلى فى بيلاروسيا ستانيسلاف شوشكيفيتش ما عرف باتفاقية بيلوفيجسكى التى نصت على أن “الاتحاد السوفيتى كدولة ضمن مكونات المجتمع الدولى وواقع جيوسياسى لم يعد موجوداً”.
وتم توقيع اتفاقية تكوين ما عرف برابطة الدول المستقلة أو دول الكومنولث على أنقاضه. وهم فى هذا تجاهلوا ولم يأخذوا فى الاعتبار رأى الملايين من الشعب السوفيتى، الذى ومن خلال استفتاء عام فى مارس 1991 صوت لصالح الحفاظ على الدولة السوفيتية.
ما حدث فى غابة بيلوفيجسكى التى تبعد عن الحدود البولندية 6 كيلومترات فقط، كان المشهد الختامى لخيانة تم التدبير لها قبل ذلك بكثير، وعلى وجه التحديد فى شهر مايو من عام 1983، عندما سافر سكرتير اللجنة المركزية ميخائيل جورباتشوف إلى كندا للتعرف على أحدث أدوات التكنولوجيا الزراعية، فى كندا أول ما فعل جورباتشوف أن التقى بالكسندر ياكوفليف السفير السوفيتى حينها فى كندا و”العميل الأمريكى”، وفق رأى فلاديمير كريتشكوف رئيس المخابرات السوفيتية آنذاك بأنه عميل أمريكى، لكن جورباتشوف الذى كان يحكم البلاد تجاهل هذا بل واستدعاه ليكون فى موسكو إلى جواره وأطلق عليه مهندس البيريسترويكا.
حفظ الكسندر ياكوفليف هذا فى ذاكرته لقائه مع جورباتشوف، وكتب عن هذا فى مذكراته، التى قال فيها كيف أنه تحدث إلى جورباتشوف عن حالة الجمود والدوجمات القديمة للماركسية ـ اللينينية التى يعيش بها الاتحاد السوفيتى، واعتبر هذا العيش فى مناخ الاتحاد السوفيتى الحالى غير صحى (مذكرات ياكوفليف). ويعترف الكسندر ياكوفليف بأنه خلال تلك الجلسات مع جورباتشوف ولدت فكرة البيريسترويكا، التى كتب عنها الكثير وتحدث عنها العالم والتى انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتى فيما بعد. لم يمر وقت كبير على هذه الأحاديث وفكرة البيريسترويكا، حتى تم تعيين جورباتشوف سكرتيراً عاماً للجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى، أعلى منصب فى الدولة السوفيتية.
وحسب كلمات رئيس الوزراء السوفيتى السابق نيكولاى ريجكوف ” لقد تولد عند جورباتشوف إحساس بالثقة بأنه سينقذ العالم، ولعبت هذه الفكرة برأسه”، لكن ما سمى حينها بإصلاحات البيريسترويكا انتهت بأزمة اقتصادية عميقة، واهتزت منظومة السلطة فى الاتحاد السوفيتى لدرجة، أن دول الاتحاد وقفت الواحدة تلو الأخرى لتعلن استقلالها. ففى 12 يونيو 1990 أعلنت عن ذلك روسيا، وبعد ذلك فى 20 يونيو أعلنت أوزبكستان عن إقرار وثيقة الاستقلال، تلاها يوم 23 يونيو مولدافيا، ثم 16 يوليو أوكرانيا تلتها بيلاروسيا فى 27 يوليو من عام 1990، وزاد الطين بلة أن بعض المناطق الروسية داخل الفيدرالية الروسية نفسها أعلنت عن سيادتها مثل منطقة إركوتسك الغنية فى سيبيريا.
أمام هذه المظاهرة لدول الاتحاد السوفيتى وقبيل المؤتمر العام الرابع لنواب الشعب، اقترحت النائبة ساجى أومولاتوفا إدراج مسألة سحب الثقة من رئيس الاتحاد السوفيتى جورباتشوف على جدول الأعمال. فى هذا الوقت انبرى الكرملين فى إجراء مفاوضات مع دول الاتحاد الكبرى حول إقرار ما يسمى الاتفاق الاتحادى الجديد، لكن للأسف البلد كان قد تغير، وهو ما ظهر جلياً إبان أحداث أغسطس عام 1991، الذى أظهر بعدها قادة دول الاتحاد السوفيتى رغبة ملحة وسريعة فى الانفصال، وكانوا يتسابقون من سينفصل أولاً، ومن ثم أفشلوا عملية اتفاق نوفواوجورييفو الذى كان من المفترض أن يحل محل اتفاق عام 1922 الذى تأسس على قاعدته الاتحاد السوفيتى. لم تعد النخب فى الدول السوفيتية لديها الرغبة فى العيش وفق المنظومة القديمة، وهو ما صوت عليه 76,4% من مواطنى الاتحاد السوفيتى فى مارس 1991.
ونعود لمذكرات ليونيد كرافتشوك رئيس أوكرانيا وقت توقيع اتفاقية بيلوفيجسكى، وأحد الوجوه الرئيسة التى لعبت دورا فى هدم الاتحاد السوفيتى، والتى عكس فيها حمى الاستقلال بين النخب فى الجمهوريات السوفيتية، حيث أشار إلى دور الرئيس يلتسين الذى ظهر على المسرح السياسى بقوة والذى أقنع الرؤساء الباقين بعدم توقيع الاتفاق الاتحادى، وقال إن يلتسين الذى لعب الدور المهم فى هذه الأحداث “أنا لا أريد أن يعرف أحد أن هذه الأسئلة الثلاثة من بناة أفكارى بل هم لجورباتشوف، أنا تحدثت معه بالأمس وها أنا أنقل عنه، السؤال الأول هل أنتم موافقون على مشروع الاتفاق الاتحادى؟ السؤال الثانى هل يجب أن يتغير أو تدخل عليه تعديلات؟ والسؤال الثالث هل تستطيعون التوقيع عليه؟ وبعد أن رفضت الأسئلة الثلاث، سألنى يلتسين “وما المخرج إذن” ووفق كلمات كرافتشوك حينها أجاب يلتسين، بهذا الشكل أنا أيضاً لن أوقع على الاتفاق الجديد.
فيما بعد، وبعد استفتاء ديسمبر فى أوكرانيا الخاص بالاستقلال، واختيار كرافتشوك كرئيس لأوكرانيا، تحدث هذا الأخير بشكل أكثر صراحة، وقال “يمكن لأوكرانيا أن تفخر بأنها كانت ومازالت وأصبحت دولة طورت الاتحاد السوفيتى الإمبراطورية الأخيرة الأشرس فى التاريخ عام 1991” . الآن ومن خلال الأحداث الدائرة، نجد أن كرافتشوك كذاب، عندما قال بأن 90% وافقوا فى الاستفتاء على الاستقلال، الآن هذا واضح جداً من خلال المشاكل التى تعانيها أوكرانيا فى شرق البلاد، فقد خدعوا الشعب، عندما كتبوا فى بطاقة التصويت هل يوافقون على استقلال أوكرانيا فى إطار الاتحاد السوفيتى أم بعيداً عنه، والذى طرح فى أغسطس 1991، ولم يكن الحديث عن استقلال أوكرانيا التام عن الاتحاد السوفيتى، على أى حال استغلت النخبة الأوكرانية نتائج الاستفتاء، واعتبروا نتيجة الاستفتاء رغبة من مواطنى أوكرانيا فى الاستقلال التام، وهكذا استقلت أهم دولة فى الاتحاد السوفيتى بعد روسيا.
بعد الاستفتاء ساد العاصمة الأوكرانية صمت القبور، بينما كان الرئيس الأوكرانى ينتظر ما ستسفر عنه أحداث أغسطس فى العاصمة الاتحادية موسكو، وفقط عندما فشل “انقلاب أغسطس” فى موسكو خرج كرافتشوك ليعلن أنه قرر الخروج من الحزب الشيوعى السوفيتى. وحول هذا الموضوع يقول رجل المخابرات يورى تاراسكين فى كتابه “حرب ما بعد الحرب” أن ” الكارنيهات الحزبية الحمراء للأشخاص الذين تسللوا للحزب والنخب الأوكرانية، كانت مجرد مظهر لإخفاء ماضيهم القومى المتعصب فى أوكرانيا، فقد كان كرافتشوك نفسه حتى عام 1950 من أتباع استيبان بنديرا، صاحب أشرس تيار قومى متعصب حارب السوفيت لفترة طويلة بعد الحرب العالمية الثانية فى غرب أوكرانيا، وبعد ذلك تم زرعه داخل الحزب الشيوعى الأوكرانى”.
أما أشهر وزير إعلام فى عهد الرئيس يلتسين، ميخائيل بولترانين فقد أشار فى مقابلة مع صحيفة “فونتانكا” بتاريخ 8/12/2011 “إن يلتسين كان هو حجر الزاوية فى كل الأحداث، التى أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتى، فقد لعب يلتسين الدور الرئيس فى اتفاقية بيلوفيجسكى وما قبلها، فهو لم يكن لياسف على شيء، ولا يهمه أى دولة سيرأس ديموقراطية أم فاشية، أى دولة المهم أن يبقى على رأس السلطة فيها هو نفسه، وألا يبقى تحت سيطرة أحد، وهو كان متفق مع جورباتشوف الذى لم يكن يعنيه شيء، وهما فقط كان يتظاهران بوجود صراع بينهما، لكن فى واقع الأمر لم يكن هناك أى صراع، فقد كانا متفقين” ويضيف بولترانين ” الغرب كان يشجع يلتسين على توسيع مجالات تأثيره، كما كان يفعل من قبل مع جورباتشوف، فعلى سبيل المثال جرت دعوة يلتسين لإلقاء محاضرة فى أمريكا أمام إحدى منظمات مكافحة الإيدز، رغم أن يلتسين عضو برلمان روسى ليس له علاقة بالموضوع، فهو مهندس بناء ولا علاقة له بالإيدز، حينها لم تلفت هذه الرحلة أنظار أحد، حيث بقى يلتسين فى أمريكا تسعة أيام ليلقى محاضرات عن الإيدز، وكان يتقاضى عن كل محاضرة 25 ألف دولار”. يشير بولترانين كذلك إلى رعاية المخابرات الأمريكية ليلتسين أثناء رحلته للولايات المتحدة ومنحه النصائح ليتمكن من الاستيلاء على الحكم وتوطيد أركان حكمه.
لم يكن اختيار غابة بيلوفيجسكى لتوقيع اتفاق هدم الاتحاد السوفيتى مجرد صدفه، فقد كانت هذه الغابة تبعد 6 كم فقط عن الحدود البولندية، حيث كان يتوقع المجتمعون أن تقوم المخابرات السوفيتية كى جى بى بإلقاء القبض عليهم، ومن ثم سيكون من السهل عليهم الهروب إلى بولندا. لكن الأهم أن يلتسين أدرك أن رئيس أوكرانيا كرافتشوك لن يوقع الاتفاق الاتحادى وهو ذهب للاجتماع المشئوم وهو رئيس منتخب، وفى يده ورقة نتيجة استفتاء الشعب على الاستقلال. ستانيسلاف شوشكيفتش رئيس مجلس السوفيت الأعلى فى بيلاروسيا كان المضيف وهو الدولة الأصغر، ويلتسين كما هو معروف كان متفقا مع جورباتشوف، بل إن هذا الأخير كان يعرف بما يحدث ولم يحرك ساكناً، فقد أخطره الكى جى بى ولم يفعل شيئا، بل أن توقيع الاتفاق تم إخطار الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب به أولاً قبل جورباتشوف، وكما هو معروف دعا الرئيس الأمريكى لمؤتمر صحفى أعلن فيه أن ” الاتحاد السوفيتى لم يعد موجوداً، والولايات المتحدة انتصرت فى الحرب الباردة”، وأعلن كذلك “أن الولايات المتحدة انفقت على هدم الاتحاد السوفيتى حوالى 5 تريليونات دولار”
بتوقيع اتفاقية 8 ديسمبر 1991، يكون يلتسين وكرافتشوك وشوشكيفتش، قد قاموا بانقلاب ضد الدولة السوفيتية، وبعد عودتهم إلى دولهم، قاموا بحملة دعاية مفادها أنهم أنقذوا الدولة السوفيتية من الإنهيار ومن حرب أهلية ضروس كان من الممكن أن تندلع. لكن أهم ما قاله جورج بوش الأب هو “أن النصر الذى تحقق على الاتحاد السوفيتى، كان بأيدى المعارضة الداخلية” أى بأيدى عملاء فى الداخل. واللافت أن الدول التى نشأت على أنقاض الاتحاد السوفيتى، تم قبولها فوراً فى الأمم المتحدة، لكى يحصلوا على ضمان أمنهم واستقلالهم، تحسباً لتغير الظروف ومحاولة استعادتهم للاتحاد السوفيتى، ومن ثم عضوية الأمم المتحدة ستكون ضمانا لعدم العودة فى عملية الانفصال. وحصل جورباتشوف على جائزة نوبل، ويلتسين حصل على ثمن عمليات الخصخصة ومازالت أسرته تجنى الأرباح منها حتى الآن، وبقية الزعماء عاشوا يحكمون حتى ماتوا وتنحوا أو تمت تنحيتهم. الحديث فى هذا الموضوع يطول، ورغم نفى الولايات المتحدة لأى دور فى هدم الاتحاد السوفيتى، إلا أن إعلان بوش عن نصر بلاده فى الحرب الباردة كشف كل شيء وهو الذى وصف انهيار الاتحاد السوفيتى بأنه “معجزة بحجم نزول الإنجيل”.

التعليقات متوقفه