“رائحة التعب” قصة قصيرة لـ”ابراهيم راشد الدوسري”- البحرين

يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com

234

قصة قصيرة

      ابراهيم راشد الدوسري- البحرين

رائحة التعب

عانقت يداي المعاول والمطارق والطوب والصخور، وشربت مسامات راحتا كفمي الاسمنت والرمل والطين، وعشقت التعب وغناء العمال وملوحة العرق فوق الجباه السمر والصدور العارية…

كنت قوياً وكان المقاول “عبد الله المسواك” يربت على كتفي وأنا اكسر الصخور بالمطرقة الثقيلة الصدئة، كنت أحس بخاتمه الذهبي يلامس جلد كتفي الملبد بالتراب والغبار والعرق، وأشم رائحة العطر تفوح من باطن كفه النظيفة الناعمة، والتفت إليه، يبتسم لى ابتسامة مصطنعة ويقول:

– القوة … القوة يا راشد.

ويلتفت إلى العمال بجسده المترهل وقامته القصيرة و كرشه الكبير ، ثم يبتعد عني وهو يمشي بخيلاء بينهم بثوبه الأبيض الناصع  وغترته وعقاله، وحذائه الجلدي اللامع وهو يردد كلماته المعتادة:

– الهمة .. الهمة .. يا جماعة، العمارة لا بد أن يكتمل بنائها في الموعد المحدد.

، العرق، سخونة الأحجار وأعمدة الحديد والشمس الحارقة تصلي  الظهور  فيتصاعد غناء العمال بأصواتهم المبحوحة، بغبار التعب:

– عان الله من عان السيد .. عان الله من عان السيد

المعاول ترتفع في الهواء وتهوي، اسطل الأسمنت تتلقفها الأيدي، ، يحتقن الدم في العروق النافرة، والبطون خاوية، والأفواه جافة، والهواء مشبع بالغبار.

(وعبد الله المسواك) يراقب العمال من بعيد متكئاً على مقدمة سيارته الفارهة الحمراء يدخن سيجارته وينفث دخانها باستمتاع في الفضاء، وفص خاتمه الذهبي في خنصره يومض تحت ضوء الشمس ، يأتيك صوتها كسولا، رخواً، ترفع رأسها إليك من فوق الوسادة.

– ألم تنم حتى الآن يا راشد.

العمر يمضي والجسد منهوك القوى … والقلب يطحنه القهر.

– راشد، راشد ألا تسمعني؟

تطالعها بعينين ذابلتين من اثر السهر.

– لماذا لم تنم، لقد أوشك الفجر أن يبزغ.

– كيف أنام والقلب ينزف يا أمينة.

– ستبرأ الجراح يوماً يا راشد، ويطل الفجر، حمامات بيضاء تحمل إلينا البشارة ، سترقص النخيل، سيولي القهر، سيكبر الأطفال، أطفالنا وأطفال كل القرى والمدن كل أطفال البلد وسيزرعون في الأرض الفرح.

في خارج البيت ، هديرالرياح، وكلاب تنبح من بعيد ، والليلة موحشة، تتقلب فوق سرير متهالك يفوح منه رائحة التعب.

تنهد راشد وقال :

– اليوم أصيب عباس بضربة شمس، ومن يدري من سيصاب غداً.

همست امينة بحنان :

– عباس رجل صلب، كلكم رجال، .. الصبر يا راشد.

– حملناه، كان فاقد الوعي، وضعناه في الظل، والمقاول يطالعنا بوجه مكفهر ، وبغضب صاح فينا:

– هيا عودوا على العمل بسرعة.

– (عبد الله المسواك) مقاول غبي.. سوف يتسكع في الشوارع في يوم ما، دوام الحال من المحال يا راشد.. فلا تبتأس، حاول أن تنام.

خيط الفجر لاح في الأفق، فلاحت الازقة والطرقات مبللة بالندى، وفاحت رائحة النخيل .. وأشجار اللوز من المزارع القريبة.

وبدأ الصباح يعزف لحن الكادحين، تقبل أطفالك الثلاثة وتمسح فوق رؤوسهم فيتعلقون بك حتى باب البيت.

أمينة تنظراليك بفخر واعتزاز، تطالعها، تحدق في عينيك، تبتسم لك.. تتذكر حوار البارحة، تضغط على يدها السمراء.. تعانقك، تقبل جبينك، ترفرف عصافيرقلبك ، تناولك (السفرطاس) تودعك بابتسامة حانية ،

تحملكم أنت والعمال الشاحنة، تتكدسون في المؤخرة، السيارة تنهب الطريق المؤدي إلى موقع العمل.

وجوه العمال مكفهرة، هالات سوداء تحت العيون من أثر السهر.

البعض صامتون منكسو الرؤوس والبعض يحدق بعيداً.

التعب أخذ منكم نضارة الجسد وأذاقكم المرارة والأسى، والقهر أنبت في قلوبكم غابات من الشوك والعوسج، تتلفت حولك.. الصمت ما زال مستبدا.

عباس .. أين عباس؟

عاودت تبحث بعينيك.. عباس غير موجود مع العمال.

سألت أين عباس؟

– صمت.

– كررت السؤال ، أين عباس؟

– صمت.

– هل لا يزال مريضا؟

– صمت.

– لماذا أنتم صامتون كالأحجار؟

– صمت.

– أين عباس؟

صوت مخنوق يأتيك.. وجه صاحبه مدفون بين راحتي يديه:

– عباس مات.

يفترسك الحزن والأسى وتنغرز كل أشواك الغابات في صدرك تتفرس في وجوه العمال .. تصيح بغضب في وجوههم:

– أما زلتم صامتين.

– عبد الله المسواك قتل عباس ، لم يسعفه ولم يبال به حين تعرض لضربة الشمس.

العمال يهمهمون همهمات كالأنين.

– صدقت يا راشد صدقت.

– لم يأخذه إلى المستشفى.

– لم يلمسه.

– مجرم.

– وما العمل يا راشد.

– لن نسكت، سنضرب عن العمل، يجب أن يحاسب المقاول عبد الله المسواك، عباس روحه تسكن في قلب كل واحد منا.

في زاوية مؤخرة الشاحنة كان صوت يتهدج:

– لقد شاهدت زوجة عباس وهي تمرغ وجهها في التراب من شدة الحزن وطفلاها يبكيان عند رأس الجثمان ووالد عباس “الشيخ” الضرير صامت وكفاه ترتعشان وهو يرفعهما إلى أعلى والدموع تنهمر من عينيه ويردد: حسبي الله ونعم الوكيل.

– وصلت الشاحنة إلى موقع العمل ..نزل العمال .. وقفوا متجاورين .. تقدمت أمامهم تحمل في يدك مطرقتك الثقيلة الصدئة.. بعد قليل وصل المقاول عبد الله المسواك في سيارته الفارهة، نزل من السيارة .. تقدم نحوكم وصاح كعادته:

– الهمة يا جماعة هيا ابدأوا العمل فالوقت يمضي بسرعة.

– العمال صامتون.

– يتأجج جمر الغضب في صدرك، تضغط بيدك على مقبض المطرقة.

صاح عبد الله المسواك بغضب:

– ألا تسمعون؟ هيا إلى العمل.

– تتقدم بوجه جامد كالصخر وتصيح في وجه عبد الله المسواك.

– لن نعمل

يلتفت إليك عبد الله المسواك.

– ماذا تقول؟

– قلت لن نعمل.

– أنني صاحب العمل وآمرك أنت ورفاقك أن تواصلوا العمل.

– لقد مات عباس .. وانت السبب في موته.

بان الذعر على وجه عبد الله المسواك، وانكمش في ثوبه وتفصد العرق فوق جبينه.

– لم تسعفه، تركته ملقى كالذبيحة يحتضر، ولم تستجب لنداءات العمال، بأن تحمله في سيارتك إلى المستشفى.

تراجع عبد الله المسواك بخطوات مرتبكة إلى الخلف، وأنت تتقدم نحوه والعمال خلفك.

رفعت المطرقة، واتجهت نحوه، ومن خلفك العمال.

فانطلق عبد الله المسواك مذعوراً يعدو متعثراً فوق أكوام الرمل والأحجار وأعمدة الحديد والأخشاب، دخل ممرات العمارة التي لم تكتمل وراح يبحث عن مكان يختبئ فيه.

صعد إلى الطابق الأول، ثم الطابق الثاني والثالث. والرابع والخامس والسادس، كان يتلفت خلفه فيصطدم بالجدران وأدوات البناء، وكلما شاهدك أنت والعمال مستمرين في مطاردته تعثر أكثر في كل شئ أمامه وكان يسقط.. ويترنح ويقوم من جديد .. يواصل الهروب.

وحين وصل إلى فتحة في الجدار في الطابق السادس، فقد توازنه فهوى إلى الأسفل وارتطم جسده بالحجارة وأعمدة الحديد المكومة عند مدخل العمارة.

وقفت والعمال تحدقون من فتحة الجدار إلى المكان الذي سقط فيه عبد الله المسواك.

فكان هناك جسده مغمور بالدماء وبالقرب من المكان كانت سيارته الفارهة تقف وحيدة.

التعليقات متوقفه