محمود دوير يكتب:سلاما أيها “الوحيد ” حامد

556

سلاما أيها “الوحيد ” حامد
*بقلم محمود دوير

ودعناه …. لكننا ندرك أنه ترك فى وجداننا ما سيبقى نتذكره دوما …
هو ” الوحيد ” الذى صنع لنا الوَنس والمتعة وساهم فى تشكيل وعي أجيال متعاقبة …
كشف عن أوجاعنا واشتبك مع معاركنا وصار المعادل الموضوعي للسينما الجادة بعد أن نجح خلال مسيرته التى امتدت لنصف قرن فى ترسيخ مصطلح ” سينما المؤلف ” فى السينما المصرية والعربية
لم يكن “وحيد حامد ” الذى ودعته مصر منذ أيام مجرد كاتب سيناريو عابر ولا أحد صناع السينما والدراما التلفزيونية بل كان مفكرا حقيقيا ومثقفا كبيرا وانسان شديد النبل ودائم العطاء
رحلة طويلة منذ أن وطأت قدماه قاهرة المعز فى خريف عام 1962 قادما من قريته “بني قريش ” التابعة لمركز منيا القمح بالشرقية جاء للقاهرة طالبا فى كلية التجارة لكنه لم يستمر بها وانتقل الى قسم الإجتماع بكلية الآداب وظل هذا التحول سرا خبأه عن الجميع فى قريته حتى والده نفسه . منذ تلك اللحظة ذاب “الوحيد ” فى حوارى القاهرة وأزقتها ومقاهيها التى فتحت له طاقة للتعرف على ناسها.
وكانت البداية مع القصة القصيرة وناديها الذى يرأسه “يوسف السباعي ” وتعرف خلاله على عدد من كتاب القصة مثل “جمال الغيطانى ” و ” عبد الرحمن أبو عوف ” وغيرهم وبعد ذلك كان ضيفا على جلسات نجيب محفوظ وبدأت علاقته بماسبيرو بمحض الصدفة حين اصطحبه صديقه “نبيل منيب ” والتقي بالإذاعى الكبير ” علي عيسي ” الذى طلب منه كتابة حلقات من المسلسل الشهير حينذاك “12046 إذاعة ” ومنذ ذلك الحين صار “وحيد حامد ” كاتبا محترفا .
قدم “حامد ” فى عام 1977 أول أعماله للسينما مع المخرج “يحيى العلمي ” وهو “طائر الليل الحزين ” وفي عام 2015 كتب سيناريو لقصة “عبد الرحمن فهمى “قط وفأر ” والتى قدمه المخرج تامر محسن.
وبين البداية والنهاية كان رصيد “حامد “الكبير والمتنوع فى السينما المصرية أحد أهم الملامح الأساسية للفن السابع فى النصف قرن الأخير.
وفى الدراما التلفزيونية بدأ مسيرته فى عام 1987 مع المخرج محمد فاضل فى ” أحلام الفتى الطائر ” وكانت “الجماعة 2 ” آخر عمل قدمه للتلفزيون عام 2017 مع المخرج هشام البدارى .
الإقتراب من سينما “وحيد حامد ” يكشف عن موهبة شديدة التميز والتفرد ليس فقط لأنه أفضل من كتب جمل حوارية مازال يتناقلها المشاهد بشكل كبير فلن تجد عملا فنيا –سينمائيا – قدمه الراحل إلا وتحولت جمل حوارية منه إلى أقوال مأثورة وايقونات يرددها المشاهدون فى الوطن العربي.
المَلمح الآخر فى أعمال الراحل والذى تمكن من وضع الكاتب فى السينما فى مكانة يستحقها فأصبحنا نقول “فيلم وحيد حامد ” رغم أن السينما بشكل عام تنسب للمخرج فهو صاحب العمل بينما نجح “حامد ” فى تحقيق مكسب كبير لم يسبقه إليه أحد من كتاب السيناريو.
ومن أهم الملامح التى ميزت مسيرة الراحل أنه تمكن من خلق توازن كبير وجرئ بين كشفه للفساد السياسى والتردى الإجتماعى وقسوة السلطة والقمع الطبقى للفقراء فى أعمال “البرئ – التخشيبة – الهلفوت – اللعب مع الكبار – المنسى – اضحك الصورة تطلع حلوة – معالى الوزير – دم الغزال – احكي ياشهر زاد ” وفى الوقت نفسه فقد كان الأجرأ والأسبق فى الإشتباك مع قضايا الإرهاب والتطرف ولعل “طيور الظلام ” الذى اختزل الصراع الدائر والدائم بين الفساد والتطرف وبين الإتجار بالدين والإتجار بالوطنية هذا العمل يمثل واحدا من كلاسيكيات السينما المصرية كما اشتبك أيضا من خلال “الإرهاب والكباب ” ومسلسلات “العائلة – أوان الورد – الجماعة”.
نحن أمام كاتب استثنائي ومقاتل جسور وسينمائى يملك القدرة على العزف خارج الصندوق ويحمل فلسفة شديدة العمق جسدها من خلال رائعته “سوق المتعة – ديل السمكة – وفى سيناريو عمارة يعقوبيان”.
وجد “وحيد ” فى الفن والسينما بشكل خاص طريقة للتعبير عن أفكاره التى تمسك بها طوال مسيرته ولم يتبدل أو يتلون .. ظل قابضا على جمر حبه للوطن بلا فساد أو تطرف … بلا تزييف أو استغلال.
هو الذى نشأ فى أسرة فقيرة وعاش مرارة “الفقر الدكر “- على حد وصفه – وهو المثقف المستنير المنحاز للعلم والتقدم والذي عرف الدين بصورته السمحة الوسطية المعتدلة بعيدا عن المغالاة والجنوح نحو العنف المادى والمعنى باسم الدين.
رحل عنا بعد أن عرى جراحنا أملا فى العلاج فكثيرا وما اصطدم مع الرقابة كانت البداية فيلم “البرئ” ثم تتابعت الصدامات والتى كان يخرج منها منتصرا حاملا نصوصه إلى الناس التى خرجت منهم لتعبر عنهم بصدق وحساسية وروعة الفنان الموهوب وعمق العارف ببواطن الأمور والمُطلع على تفاصيل حياتهم وأوجاعهم ومصادر بهجتهم . فظل دائما ضمير الوطن اليقظ وقلبه المرهف.
ورغم ما تعرض له من هجوم شارك فيه على حد سواء طرفى طيور الظلام الأول هم الفاسدون الذين كشفهم وتجار الدين الذين واجههم عبر شاشات السينما والتليفزيون بحقيقتهم الوحشية واستغلالهم الفاضح والواضح للدين إلا أنه لم ينكسر يوما أو يخبئ رأسه فى رمال السلبية خوفا من بطش فاسد أو قتل معنوى لمتطرف.
ظل الوطن هو قبلته والمواطن هو هدفه …لذلك فقد وضعه الملايين من جمهور الفن فى مكانة خاصة جدا والتفوا حوله كما فعلوا مع بطله فى فيلم “المنسى ” والإرهاب والكباب ” ولعل مشاهد النهاية فىهما يعبر عن انحياز “حامد ” هو الإنحياز للناس والإحتماء بهم وكانوا دائما مصدر حماية حقيقية وملاذ آمن كلما هَبت عواصف الخصوم فتجد الملايين تحتفي بكاتبها وتحتضنه بإحترام ومحبة التى شكلت عقدا دائما بين وحيد حامد وبين المصريين.
وداعا أيها الكاتب الإستثنائى والمقاتل الجسور والمثقف المستنير.

 

التعليقات متوقفه