مستقبل العدالة الاجتماعية في مصر

25

بقلم | حسين عبد الرازق

دعا “عمرو موسي” المرشح السابق لرئاسة الجمهورية وأحد مؤسسي جبهة الإنقاذ إلي عقد مؤتمر دولي لإنقاذ الاقتصاد المصري. وبدعوته تلك تدارك «عمرو موسي» النقص الفادح في برنامج جبهة الإنقاذ الذي ركز علي قضايا الدستور والانتخابات متجاهلا القضايا الاقتصادية والأوضاع المعيشية للمواطنين التي عبروا عنها بشعاري العيش والعدالة الاجتماعية.. ويعالج «حسين عبد الرازق» في هذه الورقة الموضوع الرئيس عن العدالة الاجتماعية.

لا يخلو برنامج لأي حزب في مصر من حديث عن ” العدالة الاجتماعية ” لا فرق في ذلك بين أحزاب اشتراكية أو شيوعية أو ليبرالية أو قومية أو حتي تنتمي لتيار الاسلام السياسي ، وإن اقتصرت في برامج بعض الأحزاب علي مجرد شعار بينما في برامج أحزاب أخري تتحول إلي نقاط برنامجية قابلة للتنفيذ في حال وصول هذه الأحزاب للسلطة . كما يختلف مفهوم ” العدالة الاجتماعية ” من حزب إلي آخر .

ويعرف بعض الباحثين العدالة الاجتماعية بأنها ” نظام اقتصادي يهدف إلي إزالة الفوارق الاقتصادية الكبيرة بين طبقات المجتمع”.

ويعرفها حزب الخضر الكندي بأنها ” التوزيع المتساوي للموارد لضمان بأن الجميع لديهم فرص متكافئة للتطور الاجتماعي والشخصي “.

ويؤكد إعلان منظمة العمل الدولية بشأن العدالة الاجتماعية ” من أجل عولمة بديلة ” الصادر في 10 يونيو 2008 علي عدد من النقاط لضمان العدالة الاجتماعية تشمل :

> تأكيد أن العمل ليس بسلعة وأن الفقر حيثما كان يشكل خطراً علي الازدهار في كل مكان .

> ضرورة اعتماد برامج من شأنها تحقيق العمالة الكاملة ورفع مستويات المعيشة وأجر يضمن حدا أدني من مستوي المعيشة وتوسيع نطاق إجراءات الضمان الاجتماعي لتوفير دخل أساسي لجميع المحتاجين .

> أن تتسم المنشآت المنتجة والمربحة والمستدامة ، إلي جانب اقتصاد اجتماعي قوي وقطاع مستدام ، بأنها أساسية لاستدامة التنمية الاقتصادية وفرص العمالة .

> تعزيز العمالة من خلال خلق بيئة مؤسسية واقتصادية مستدامة .

> وضع وتعزيز تدابير للحماية الاجتماعية – الضمان الاجتماعي وحماية اليد العاملة – تكون مستدامة ومتكيفة مع الظروف الوطنية ، بما فيها توسيع الضمان الاجتماعي ليشمل الجميع ، بما في ذلك التدابير الرامية إلي توفير دخل أساسي لجميع من يحتاجون لهذه الحماية ، وتكييف نطاقه وتغطيته لتلبية الاحتياجات الجديدة .. وتوفير ظروف عمل صحية وآمنة ، وسياسات أجور ومكاسب وساعات عمل وغير ذلك من ظروف عمل تمكن الجميع من الحصول علي قسط عادل من ثمار التقدم ، وتوفير أجر يضمن حداً أدني من مستوي المعيشة لجميع المستخدمين والمحتاجين إلي مثل هذه الحماية .

> تعزيز الحوار الاجتماعي

> ترجمة التنمية الاقتصادية إلي تقدم اجتماعي ، والتقدم الاجتماعي إلي تنمية اقتصادية .

ويري عمرو حمزاوي أن مفهوم العدالة الاجتماعية في الفكر الليبرالي يقوم علي الحقوق المتساوية لكل المواطنين عبر ثلاثة مبادئ أساسية هي : الحرية – تكافؤ الفرص – سيادة القانون ، في ظل مجتمع ديمقراطي تعددي ، وينحصر دور الدولة في العمل كمنظم لاقتصاد السوق في إطار الحريات الاقتصادية ومن خلال فرض تشريعات وقوانين تحمي السوق من الاختلالات والهيمنة والاحتكار ، وانضباط الدولة في إدارة المنشآت الحيوية ( كقناة السويس والبترول في بلد مثل مصر ) إضافة إلي أن العدالة الاجتماعية في الفكر الليبرالي تشمل ضمانات عدالة التوزيع بفرض الضرائب التصاعدية والعقارية التي يتم استغلالها طبقا لأدوات عدالة التوزيع المتمثلة في تقديم شبكات خدمية كالتأمينات والرعاية الصحية والتعليم . أما تكافؤ الفرص فهو أحد أهم المبادئ والسبل التي لابد أن تنتهجها الدولة في ظل الليبرالية في ضبطها للسوق ، أو في دخولها كمشارك مع بقية المستثمرين لتنظيم مبدأ التكافؤ . والمبدأ الثالث هو ضمان النزاهة في كل من الحرية الاقتصادية وتكافؤ الفرص ، ولابد أن يشرع له قوانين سيتم اعتبارها نقطة إنطلاق متساوية لكل المشاركين بالسوق دون تقديم تسهيلات لأحد دون الآخر ، وفتح الأسواق للمستثمرين في وجود الدولة .

وتحدث ” مجدي سعد ” الناشط السياسي الإسلامي عن رؤية التيار الاسلامي للعدالة الاجتماعية ، فقال إن العدالة الاجتماعية عند تيار الإسلام السياسي هي جزء من المصالح المنزلة في الشريعة الإسلامية . فالتشريع الإسلامي طرح فكرة المساواة والسواسية بين البشر ، ومارس الإسلام بالفعل العدالة الاجتماعية بتحريمه الاحتكار ، كما أوصي بإعطاء الأجير حقه قبل أن يجف عرقه ، وأن دولة الإسلام تدخل ضمن أهدافها الفئات الضعيفة والنساء وهم مقصد تطبيق العدالة ، وأن تحقيق العدالة الاجتماعية يتم عن طريق فرض الضرائب علي الأغنياء وذلك في صورة الزكاة (5ر2%) وأحقية الدولة في نزع ممتلكات الأشخاص في حالة حيادهم عن الهدف الرئيسي الذي أقرته الشريعة وهو إعمار الأرض . كما تتحقق العدالة الاجتماعية بتدخل الدولة في تبني مشروعات لبرامج مباشرة تخدم الفئات الأكثر تضرراً من ناحية ، ومن ناحية أخري تعود الدولة لدورها الاقتصادي في توفير الاحتياجات الأساسية ومكافحة الفساد والقضاء علي الرشوة والسرقات ، كما علي الدولة أن تتدخل في الرعاية الصحية وتعيد هيكلة المخصصات بما في ذلك الدعم وإصلاح هيكل الأجور وربط ذلك بمعدلات الانتاج والأرباح . كذلك من المهم إعادة نموذج ” الوقف ” كما يحدث في تركيا ، والذي عليه يتم توزيع نسبة من ممتلكات الأغنياء علي الفقراء .

بينما يري الفكر الاشتراكي أن تحقيق ” العدالة الاجتماعية ” يتطلب إقامة المجتمع الاشتراكي ، وهو ” المجتمع ” الذي تتم فيه تصفية استغلال الانسان للانسان ، وهذا أمر مرتبط باستبعاد نمط الانتاج الرأسمالي ، وبتعديل نظام إدارة الانتاج والتوزيع علي النحو التالي :

أ- يستغل المجتمع الاشتراكي موارده بهدف إشباع الحاجات الانسانية ، لا بهدف تحقيق أقصي ربح كما في الرأسمالية .

ب – يعتمد المجتمع علي آلية التخطيط في توزيع الموارد علي الاستعمالات المختلفة بكفاءة ورشادة ، لا علي آلية السوق التي تؤدي إلي كثير من الهدر وفوضي الانتاج في الرأسمالية .

ج – يتحول النمط السائد لملكية وسائل الانتاج من الملكية الخاصة إلي الملكية الجماعية أو المجتمعية .

د – يوزع ناتج عمل المجتمع حسب مبدأ ” من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته ” .

ويري الاشتراكيون أيضاً أن تحقيق المجتمع الاشتراكي لا يتم بالفرض علي المواطنين في أي بلد أو بقفزة واحدة ، بل لابد من فترة انتقالية يطلق عليها ” التنمية الوطنية المستقلة والمعتمدة علي الذات ” . وخلال هذه الفترة يمكن تحقيق قدر من ” العدالة الاجتماعية “

فالدولة في مرحلة التنمية الوطنية المستقلة مطالبة بالقيام بدور فعال وأساسي في التنمية يتجاوز مجرد تحديد الإطار القانوني للعمل الاقتصادي ووضع السياسات العامة والاستثمار في بناء المرافق العامة وبناء القاعدة الأساسية .

يقول د.إبراهيم سعد الدين ” إن الدولة سيكون عليها بالإضافة إلي ذلك القيام باستثمارات مباشرة في المجالات التي تنأي الرأسمالية عن الاستثمار فيها . ويشمل الدور التنموي للدولة القيام بالوظائف التالية بشكل خاص .

> تحقيق تنمية بشرية عن طريق الحفاظ علي صحة الانسان ، وتوفير شروط تعليمية وتدريبية وتطوير مهاراته وقدراته الانتاجية .

> بناء قاعدة علمية وتكنولوجية قادرة علي المشاركة في التطور العلمي والتكنولوجي الجاري في العالم والاستفادة منه علي أساس من الأخذ والعطاء في نفس الوقت .

> القيام بدور اساسي في تنمية المدخرات القومية وزيادة حجم الادخار القومي والتشجيع علي الاستثمار في رأس المال الثابت كبديل عن السعي للربح عن طريق المضاربة وعن طريق التوظيف المالي للمدخرات .

> قيام الدولة الدولة بدور فعال في توجيه الاستثمارات إلي الصناعات المتقدمة تكنولوجيا والتي تملك إمكانيات للنمو ولعب دور أساسي في تحديث المجتمع ، وقيام الدولة بدور مباشر في الاستثمار في الصناعات الجديدة والكبيرة الحجم التي تنأي الرأسمالية المحلية عن الاستثمار فيها .

> قيام الدولة بدور فعال في توفير القاعدة التحتية المادية والمعنوية الضرورية لتنشيط الانتاج وزيادة الانتاجية .

> قيام الدولة بدور أساسي في توفير البيانات والمعلومات اللازمة للتخطيط علي المستوي القومي وعلي مستوي المشروعات .

> قيام الدولة بوضع السياسات اللازمة لإخراج مصر من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية ووضع هذه السياسات موضع التنفيذ .

> قيام الدولة بدور فعال في إعادة توزيع الدخل وفي توفير الخدمات الأساسية لمختلف فئات الشعب .

> القيام بدور فعال في توجيه النشاط الزراعي والصناعي وفي تنمية الصادرات وتحقيق توازن حقيقي في الميزان التجاري وميزان المدفوعات .

إن قيام الدولة بدور فعال في التنمية في الإطار الرأسمالي ، يمكن أن يؤدي بالفعل إلي تحقيق معدلات عالية للنمو الاقتصادي . كما حدث في أكثر من مكان في الدول الصناعية الحديثة في أمريكا اللاتينية أو في شرق آسيا ، علي أن هذا النمو كما تبرز الأمثلة التاريخية كثيرا ما يصاحب بعدد من الآثار السلبية التي تؤدي إلي زيادة حدة التوتر الاجتماعي وإلي زيادة حدة الصراعات الطبقية داخل هذه المجتمعات .

وللأسف فالواقع الاقتصادي والاجتماعي في مصر لم يصل حتي إلي مستوي التنمية الوطنية المستقلة .

لقد أفرزت السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي طبقها نظام الحكم بدءاً من عام 1974 تحت اسم الانفتاح في ظل الرئيس الأسبق أنور السادات وتواصلت في ظل خليفته ” محمد حسني مبارك ” تحت أسماء مختلفة مثل ” الانفتاح الانتاجي ” و” الصحوة الكبري ” و” الإصلاح الاقتصادي ” ، والتي تتبني روشتة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وهيئة المعونة الأمريكية والمعروفة باسم ” التثبيت والتكيف الهيكلي ” ، وتقوم علي انسحاب الدولة من الاستثمار والتنمية وتوفير الخدمات الأساسية والرهان علي الرأسمالية المحلية والأجنبية .. أفرزت نتائج كارثية علي عملية التنمية والعدالة الاجتماعية ، في ظل ضعف الرأسمالية المحلية واتجاه القطاع الأغلب فيها إلي عمليات السمسرة والمضاربة والعمل كوكلاء للرأسمالية الأجنبية وفي الصناعات الاستهلاكية والثانوية بحثاً عن الربح السريع .

واستمرت هذه السياسات الفاشلة – والتي كانت نتائجها أحد أبرز أسباب ثورة 25 يناير 2011 – بعد الثورة وفي ظل حكم الرئيس محمد مرسي وحكومته وجماعته وحزبه ، التزاما ببرنامج جماعة الإخوان ( سبتمبر 2007 ) والذي نص في الباب الرابع الخاص بالاقتصاد والتنمية المستدامة ، علي أن برنامج الحزب يستمد ” مرجعيته مباشرة وأساساً من فلسفة وعناصر النظام الاقتصادي الاسلامي .. ويتم النشاط الاقتصادي وفقاً لهذا النظام من خلال السوق الإسلامية .. ومن خلال قوي العرض والطلب .. وفي ظل ملكية متعددة تشمل الملكية العامة ، وملكية القطاع العام والملكية الخاصة . والملكية الخاصة جوهر موضوع الملكية في الإسلام .. ويعتبر القطاع الخاص هو القاطرة التي تقود التنمية في ظل اقتصاد السوق .. وتتطلب إستراتيجية التنمية للاقتصاد المصري أن تحتل مكان الصدارة ” . وعندما يتعرض البرنامج لمشكلة الفقر يقترح خطوات تنفيذية تقوم أساسا علي أعمال الخير والإحسان ” فأموال الصدقات والزكاة بأنواعها المختلفة لتمويل مختلف الأنشطة التي تدعم برنامج الرعاية الاجتماعية “.

وإضافة إلي الالتزام بنفس السياسات المتبعة في ظل الحزب الوطني والملتزمة بتعليمات صندوق النقد والبنك الدوليين وهيئة المعونة الأمريكية ، يضيف برنامج الإخوان اعتبار فائدة البنوك ربا ، ويطالب بإلغاء العمل بنظام الفائدة في إدارة الأصول والأرباح كما يطالب بإلزام السياح الأجانب بضرورة تعرفهم إلي ” ضوابط الشريعة الإسلامية قبل أن تطأ أقدامهم أرض مصر واحترام عادات وتقاليد المجتمع ” واتساقا مع انحيازهم للقطاع الخاص يؤيدون ” الخصخصة ” بشكل مبدئي وجوهري ويختلفون مع الحزب الوطني في الطريقة والأسلوب .

ونتيجة لاستمرار هذه السياسات فمصر تواجه اليوم مجموعة من المشاكل والقضايا الجوهرية الاقتصادية والاجتماعية ، تباعد بينها وبين تحقيق أي قدر من العدالة الاجتماعية . ويأتي في مقدمة هذه المشاكل ..

أولا : قضية الفقر

فطبقاً لتقرير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ” مصر بين توغل الفقر وسراب التنمية ” فإن نحو 40% من الشعب المصري يعيشون تحت خط الفقر ، منهم 19% تحت خط الفقر المدقع .. وقاد الفقر إلي تدهور الأوضاع الصحية في مصر ، فوفقاً لتقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة ” الفاو ” الصادر عام 2009 ، هناك ما يقرب من نصف الأسر المصرية تعاني سوء التغذية نتيجة لتدني مستوي الدخل لدي هذه الأسر ، ويقول تقرير مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري مشيراً للتأثيرات الاجتماعية الواسعة للفقر ، أن إجمالي عدد المناطق العشوائية في مصر يبلغ 1171 منطقة عشوائية يسكنها نحو 8ر14 مليون نسمة ، بما يصاحب ذلك من انعدام المرافق والخدمات الأساسية من مياه وصرف صحي وكهرباء وخدمات صحية . ويفيد تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2009 أن معدلات الفقر في مصر تبلغ 41% من إجمالي عدد السكان ، بينما تتراوح معدلات الفقر العام في المنطقة العربية بين 6ر28% في لبنان و30% في سوريا في الحد الأدني ، ونحو 9ر59% في حدها الأعلي علي اليمن ، وبهذه النسبة (41%) تحتل مصر المرتبة الثانية عربياً في ارتفاع معدلات الفقر بعد اليمن !

ثانيا : البطالة

فطبقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء قدر حجم البطالة عام 1960 بنسبة 5ر2% من إجمالي حجم القوي العاملة وقفز في تعداد عام 1976 إلي 7ر7% ثم إلي 7ر14% في تعداد 1986 ، ثم تنخفض إلي 1ر9% عام 2002 وتلك الأرقام الرسمية تتعلق فقط بالبطالة السافرة ، فهي لا تشمل البطالة الموسمية ، أو الذين يعملون في حرف وقطاعات هامشية لا استمرار فيها ، بينما تقدر دراسات علمية حجم ونسبة البطالة الحقيقية في مصر اعتماداً علي أرقام وبيانات أعلنتها اللجنة العليا للتشغيل برئاسة مجلس الوزراء بما يقرب من ضعف البيانات الرسمية ، فعدد العاطلين طبقاً لهذه الدراسات يتراوح بين 5ر2 مليون و436ر3 مليون عاطل بنسبة ما بين 17% و20% من حجم قوة العمل ويشكل المتعلمون بين العاطلين الأغلبية بنسبة تصل إلي نحو 3ر87% من عدد المتعطلين.

ويزداد الأمر خطورة إذا علمنا أن النسبة الأكبر من العاطلين عن العمل هم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و40 سنة وأن الغالبية العظمي من العاطلين خريجي الجامعات والمدارس الثانوية ، بما يعني إهدار مليارات الجنيهات التي استثمرت ( أنفقت ) في تعليمهم دون أن يكون لهذا الإنفاق عائد يتمثل في تشغيل هذه الطاقات البشرية لتصبح قوة عمل منتجة .

والبطالة بشكل عام هي أحد مسببات ظواهر العنف الغريبة التي تحدث في المجتمع في السنوات الأخيرة .

وكما يقول البرنامج العام لحزب التجمع ” إن استمرار معدلات مرتفعة للبطالة يعني في الواقع تكريس التفاوت الاجتماعي وزيادة حدة التمايز في الدخول بين فئات المجتمع وانقسام المجتمع المصري إلي مجتمعين منفصلين .. عالم الأغنياء وعالم الفقراء ..”.

ثالثاً : مأساة الأجور في مصر

شهدت مصر منذ ديسمبر 2006 وحتي نهاية ديسمبر 2007 وبدايات 2008 سلسلة من الاحتجاجات في عديد من مواقع الإنتاج والعمل ، غلب عليها الإضرابات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية العمالية أساساً ، وبلغت ذروتها بإضراب ” موظفي ” الضرائب العقارية معلناً تحرك ” الموظفين ” لأول مرة منذ إضرابهم في ثورة 1919 ضد الاحتلال والحماية البريطانية في مصر ومن أجل الدستور .

فبينما سجلت الإحصاءات عام 2005 أكثر من 93 احتجاجاً عمالياً ( 40 تجمهرا – 22 إضرابا عن العمل – 20 اعتصاما- 11 مظاهرة ) ، وشهد عام 2006 أكثر من 89 احتجاجاً (43 اعتصاما – 32 إضرابا – 14 مظاهرة ) .. شهد النصف الأول عام 2007 وقوع 368 حالة احتجاج ، سواء في الحكومة أو قطاعي الأعمال العام والخاص ، من بينها 126 تجمهراً ووقفة احتجاجية و109 إضرابات عن العمل و100 اعتصام و33 مظاهرة سلمية . وكانت الاحتجاجات في قطاع الهيئات الحكومية هي الأعلي يليها القطاع الخاص فالقطاع العام .

ورغم تنوع وتعدد الأسباب وراء هذه الاحتجاجات ، فقد كانت قضية تدني الأجور والمرتبات وتوابعها مثل البدلات والحوافز والأرباح والأجر الإضافي والعلاوة هي العنصر المشترك في كل هذه الاحتجاجات . فالأجور في مصر قضية بالغة الخصوصية والحدة ، تفتقد لأي معايير موضوعية ويتم تحديدها علي أسس شاذة بعيدة عما يعرفه العالم .” ويتم تحديد الأجور عادة علي أساس اعتبارين إحداهما اقتصادي والآخر اجتماعي ، حيث يدخل الأجر ضمن عناصر الانتاج وبالتالي فإن حجمه يؤثر علي تكلفة الانتاج علي رب العمل ، وفي المقابل يجب أن يوفر الحد الأدني للأجر الحياة الكريمة للعامل والموظف وينتج له المأكل والملبس والسكن والتعليم والعلاج “فبينما تتساوي الأسعار في مصر مع الأسعار العالمية ، فإن الأجور هي الأدني بين الدول المجاورة والقريبة” .

لقد صدر قانون العمل الحالي عام 2003 ونص علي إنشاء مجلس قومي للأجور برئاسة وزير التخطيط يختص بوضع الحد الأدني للأجور علي المستوي القومي ، مراعياً نفقات المعيشة وإيجاد الوسائل والتدابير التي تكفل تحقيق التوازن بين الأجور والأسعار . ولكن هذا المجلس لم يجتمع إلا مرة واحدة أو مرتين ولم يحدد حداً أدني للأجور . ومازال الحد الأدني للأجور ” الأجر الأساسي ” محدداً بقانون صدر منذ 33 عاماً وهو القانون 48 لسنة 1978 والذي حدده بـ “35” جنيها في الشهر وفقا للأسعار السائدة في ذلك الزمان والتي تضاعفت عدة مرات خلال العقود الثلاثة الماضية .

ولاتقتصر مشكلة الأجور علي العمال والموظفين ، بل تمتد إلي المهنيين والفئات التي ينظر إليها علي أنها فئات مميزة كالأطباء والمهندسين والصحفيين والقضاة وأساتذة الجامعات .

كذلك فالأجور الحقيقية انخفضت نتيجة للتضخم وارتفاع الأسعار . وفي دراسة سابقة لعبد الفتاح الجبالي رئيس وحدة البحوث الاقتصادية بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام ، يتضح أن ارتفاع اجمالي الأجور من 3ر110 مليار جنيه في 2001/2002 إلي 4ر142 مليار جنيه في 2004 /2005 أدي إلي ارتفاع الأجور الحقيقية من 3ر110 مليار جنيه إلي 113 مليار جنيه فقط . أي أن الارتفاع الحقيقي في الأجور لم يتجاوز 7ر2 مليار وليس 1ر32 مليار جنيه . وفي دراسة أخري لمعهد التخطيط القومي أن متوسط الأجر الاسمي للعامل في عام 2005 وصل إلي 7409 جنيهات في حين أن متوسط الأجر الحقيقي للعامل في نفس العام قدر بـ 5879 ، أي أنه رغم ارتفاع متوسط الأجر الاسمي من 520 جنيها شهرياً في عام 2001 /2002 إلي 4ر617 جنيه شهرياً عام 2004/2005 فإن الأجور الحقيقية – أي قدرة الجنيه علي الشراء – انخفض من 520 جنيها إلي 9ر489 جنيه خلال نفس الفترة.

وطبقاً لجدول الأجور للموظفين في 1/7/2007 بعد إضافة علاوة خاصة 10% اقترحتها الحكومة ( تم رفعها إلي 15% بعد ذلك ) فإن كل الموظفين المعينين من الدرجة السادسة إلي الدرجة الثالثة يعيشون تحت خط الفقر إذ لم يكونوا يعولون إلا أنفسهم ، أما إذا كان الموظف يعول فرداً واحداً فإن كل موظفي مصر من الدرجة الثالثة إلي الدرجة العالية يقعون تحت خط الفقر الذي قررته الأمم المتحدة ( 2 دولار في اليوم أي 326 جنيها مصرياً في الشهر ) . فالأجر الأساسي للموظف في الدرجة السادسة 105 جنيهات يرتفع إلي 75ر227 بعد إضافة الأجر المتغير ، وفي الدرجة الخامسة 108 جنيه يرتفع إلي 8ر231 ، وفي الدرجة الرابعة 114 يرتفع إلي 9ر239 ، وفي الثالثة 144 يرتفع إلي 4ر280 وفي الثانية 210 يرتفع إلي 5ر369 ، وفي الأولي 285 يرتفع إلي 75ر470 ، والمدير العام 375 يرتفع إلي 25ر592 ، والدرجة العالية 420 يرتفع إلي 653 ، والدرجة الممتازة 7ر650 يرتفع إلي 37ر978.

ولا يقف الظلم الذي يتعرض له الموظفون في مصر عند حدود تدني الأجور والمرتبات ، فهناك ظلم آخر يتمثل في اختلال هيكل الأجور في الجهاز الإداري بصورة أدت إلي تفاوتات حادة بين العاملين في مصلحة واحدة وأيضاً بين العاملين في القطاعات والمصالح المختلفة . ويعود التفاوت بين العاملين في الغالب إلي ما يعرف ببنود الأجور المتغيرة كالبدلات والمكافآت والأرباح التي عادة مايتم إقرارها وفقاً لقوانين أو إجراءات خاصة ” حولت في النهاية جدول الأجور إلي جدول وهمي يختلف تماماً عن الواقع حيث تذهب نسبة 80% من المبالغ المخصصة للأجور إلي 30% من العاملين فيما تذهب الـ 20% المتبقية إلي 70% من العاملين ” . ويبلغ هذا التفاوت ذروته عندما نعلم أن متوسطات ما يحصل عليه أعضاء الإدارة العليا في القطاعات المختلفة من مرتبات وبدلات وأجور يتجاوز مئات الألوف شهرياً . فعلي سبيل المثال فالدخل الشهري لرئيس مجلس إدارة شركة الحديد والصلب المصرية السابق من عمله كان 140 ألف جنيه . وخلال أزمة مأموري الضرائب العقارية تبين أن الموظف الذي يحصل علي 320 جنيها في الضرائب العقارية يحصل قرينه في مصلحة الضرائب علي 1600 جنيه . وفي وزارة التموين مثلاً يحصل 3200 موظف تابعين لها علي حوافز بنسبة 25% بينما يحصل العاملون في ديوان الوزارة علي حوافز بنسبة تتراوح بين 100% و200% .

ويشير الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء إلي التفاوت الكبير للأجور في القطاعات المختلفة . فبينما يبلغ متوسط الأجر الأسبوعي للعاملين في قطاع التعدين واستغلال المحاجر 390 جنيها يرتفع في القطاع الخاص إلي 506 جنيهات أسبوعياً ، ويتدني في قطاع الصناعات التحويلية إلي 247 جنيهاً وإلي 147 جنيها في القطاع الخاص بنفس الصناعة !.

وفي دراسة مقارنة لمتوسطات الدخل السنوي للعاملين في القطاعات المختلفة في قطاع الأعمال العام يتبين مدي التفاوت بينها . فمتوسط الدخل السنوي في الشركة القابضة للإسكان والسياحة والسينما نحو 24300 جنيه ينخفض إلي 21540 جنيهاً في القابضة للصناعات المعدنية ، ثم إلي 18230 جنيها للقابضة للأدوية والكيماويات ، وأخيراً إلي 9830 جنيها في القابضة للغزل والنسيج .

وفي دراسة حديثة : ” أن سياسة الأجور في مصر حالياً تفتقر إلي العدالة ولا تشجع علي الاستثمار كونها مرتبطة بالمؤهل وليس بالمهارة والتصنيف المهني .. فالفرق بين متوسط أقل وأعلي أجر شهري في الجهاز الحكومي وصل إلي ثلاثين ضعفاً ، حيث بلغ متوسط الأجر الشهري لموظفي شركات قطاع الأعمال الأساسي والمتغير 7156 جنيهاً ، في حين لا يزيد متوسط الأجر الشهري لنظرائهم في وزارة الأوقاف علي 235 جنيها فقط ، ويرتفع قليلاً إلي 408 في وزارة القوي العاملة ، بينما يصل إلي 432جنيهاً في وزارة الري ، ويقفز هذا الأجر ليصل إلي 5283 جنيها في المجلس القومي للمرأة التي كانت ترأسه ” السيدة سوزان مبارك ” ، وينمو بشكل كبير في وزارة الخارجية ليبلغ 6059 جنيها في الشهر . وهناك هيئات وقطاعات لها موازنات منفصلة مثل قناة السويس والبترول ورئاسة الجمهورية والقوات المسلحة ، وهذه القطاعات تستولي علي جزء كبير من مخصصات الأجور ، الأمر الذي ينتج فروقاً شاسعة في الرواتب . ويبدو الخلل واضحاً إذا قارنا بين أجور ومرتبات كبار ضباط الشرطة وأجور علماء الطاقة النووية ، ” ففي وزارة الداخلية 30 ألف ضابط تقريباً ما بين عقيد وعميد ولواء يتقاضون أجوراً مرتفعة ، فالسيد اللواء مساعد وزير الداخلية يتقاضي ما بين 20 إلي 25 ألف جنيه شهرياً بخلاف المكافآت المقررة لبعض اللواءات في قطاعات مؤثرة مثل المخدرات والجمارك وأمن الدولة والمرور ، ويتقاضي اللواء مدير الأمن ربع مليون جنيه شهرياً “!! بينما يتقاضي شهرياً رئيس هيئة المحطات النووية 30ر784 جنيه ، ورئيس قطاع الوقود النووي 700 جنيه ، ورئيس قطاع المشروعات 679 جنيها ، ورئيس قطاع الدراسات والتطوير 679 جنيها ومدير عام الوقاية الإشعاعية وحماية البيئة 492 جنيهاً.

وفي ظني أن أي حديث عن ” العدالة الاجتماعية ” في مصر في ظل هذه الأوضاع هو لغو وخداع للنفس . فالعدالة الاجتماعية لن تتحقق إلا في ظل سياسات اقتصادية واجتماعية جديدة ودور للدولة في الاستثمار والتنمية وتوفير الخدمات الأساسية .

التعليقات متوقفه