فريدة النقاش تكتب:إضراب فلاحين

424

قضية للمناقشة

إضراب فلاحين

فريدة النقاش

الإضراب الذي أحكي عنه في السطور التالية هو اضراب من نوع خاص إنه إضراب فلاحين عن الطعام في الهند, واختار منظمو الاضراب إطلاقه تزامنا مع ذكرى وفاة المهاتما “غاندي” زعيم الاستقلال الوطني الذي اختار طريق النضال السلمي ضد الاستعمار البريطاني لبلاده حتي خرج الاستعمار مهزوما.

يطالب المضربون بسحب القوانين التي أقرها البرلمان, ورأوا فيها انحيازا لكبار الملاك علي حساب صغار المزارعين والفلاحين الفقراء.

وقد توافقت الأدبيات السياسية من شتي المدارس علي ان انخراط الفلاحين في النضال الوطني أو النضال الاجتماعي هو من أكثر الأمور ندرة وتعقيدا, فعادة ما ينحاز الفلاحون – حتي الفقراء منهم للفكر الرجعي ويشكلون بذلك رصيدا وسندا للسياسات المحافظة الا قليلا.

واندلعت ثورات التحرر الوطني في القارات الثلاثة أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ضد الاستعمار القديم, وواصل بعضها النضال التحرري ضد الاستغلال الداخلي لتكتسب ثورات التحرر الوطني طابعا اجتماعيا تقدميا. وكان هذا الطابع هو الذي أدي إلى ابتعاد فقراء الفلاحين عن القوى المحافظة والرجعية.

وقلبت الثورة الصينية في منتصف القرن العشرين المعادلة المستقرة في الفكر السياسي حول أدوار الفلاحين. وحين قاد “ماوتسي تونج” المسيرة الكبرى في الصين شكل فقراء الفلاحين قوتها الاجتماعية الأساسية, وتخلقت في هذا السياق أدبيات جديدة, وأفكار سياسية وأحزاب ومنظمات اجتماعية انشغلت جميعا بأدوار الفلاحين, وجاء قادة جدد للتحرر من أصول فلاحية انتموا جميعا للأفكار الثورية الجديدة التي احتل فيها الفلاحون مواقع بارزة, وبعد ان كانت الطبقة العاملة هي الأساس الاجتماعي للتغيير نشأت أفكار التحالف بين العمال والفلاحين والمثقفين التقدميين, وظل التحالف السياسي والاقتصادي الراسخ بين العمال والفلاحين والمثقفين في الأدبيات الثورية والممارسات الحزبية والنقابية مرتكزا أساسيا متينا لكل تجارب الانتقال إلي الاشتراكية بعد تحرير المستعمرات. وهكذا احتلت مسألة الفلاحين مكانة متقدمة في جدول اعمال الحركة العمالية في العالم المتقدم صناعيا خاصة في روسيا القيصرية في مطلع القرن العشرين حين اندلعت الثورة الاشتراكية الاولي فيها رغم الفارق الشاسع بينها وبين اوروبا الغربية ام الثورة الصناعية.

وكانت الثورة الاشتراكية في الصين في منتصف القرن العشرين هي التي دفعت بقضية الفلاحين إلى مقدمة المشهد السياسي العالمي, هكذا ارتبط الفلاحون منذ ذلك الحين بالحركة الثورية. وكتب “ماوتسي تونج” كتابه الصغير عن “الديموقراطية الجديدة” والتي تتمثل من وجهة نظره في منح السلطة للفلاحين الذين كانوا يمثلون حينذاك 80% من سكان البلاد.

وتباري مفكرون وكتاب ومناضلون ثوريون تضامنوا مع ثورات العالم الثالث في انتاج ادبيات مهمة سواء في شكل إبداع من رواية وشعر ومسرح أو في شكل تنظير جديد, وبرز من بين هؤلاء  “فرانز فانون” الذي تمحورت أفكاره حول ثورية الفلاحين والذي اعتبرهم هو القوة الثورية الوحيدة في بلدان المستعمرات.

وعرفت الحركة الأدبية في مصر و الوطن العربي كله إبداعا مميزًا علي الصعيدين الفني والسياسي حول الفلاحين, وشكلت رواية “الأرض” لعبدالرحمن الشرقاوي علامة فارقة في تاريخ الكتابة الروائية العربية خاصة بعد ان تحولت الي فيلم سينمائي نجح نجاحا باهرا.

وحين سألت المخرج الراحل صلاح أبوسيف عن تفسيره لندرة الأفلام السينمائية التي تعالج قضايا الفلاحين رغم أنهم ظلوا حتي وقت قريب يشكلون أغلبية السكان قال إن أهل المدن لا يحبون مثل هذه الموضوعات, ويفضلون الحركة والحيوية والحداثة التي تمثلها المدينة, خاصة أن سكان المدن يشكلون الجمهور الأساسي للسينما.

ورغم أن التكوين الاجتماعي لمصر الحديثة قد تغير جذريا بفعل دخول الصناعة مع كل أشكال الحداثة, ومع انفجار ثورة التواصل الجديدة فلا يزال الفلاحون يشكلون نسبة لا يستهان بها من سكان مصرية, ولا تزال هناك أمية منتشرة بينهم لم تفلح المشروعات والبرامج التي تواصل انتاجها منذ ثورة 1952  حتي الآن للقضاء عليها, وتشكل هذه الأمية عملية إظلام علي الوعي الجمعي للفلاحين الذين طالما رددنا أنهم يشكلون مخزون الحكمة الشعبية. بل جاء كل ما هو مدهش وطازج في حياتنا الثقافية والسياسية من أعطافهم.

ورغم ان هناك دراسات اكاديمية واضافات صحفية متراكمة حول اوضاع الفلاحين في بلادنا, فلا تزال هناك غربة ما بينهم وبين المدينة و”النداهة” كما اطلق عليها “يوسف إدريس” ولا تزال هناك مناطق مظلمة حول هذه الأوضاع.

ويذكرنا الاضراب عن الطعام الذي نظمة ملايين الفلاحين الهنود مجددا بكل قضايا الفلاحين في بلادنا, فهم يشكلون القوة الكافية للمصريين وهم الذين لا يحتجون الا نادرا, ولكنهم حين يفعلون يتغير العالم غالبا الي الافضل, فهل يا تري انتبه الفلاحون المصريون الي ما يجري الآن في الهند, وما يفعله الفلاحون الهنود دفاعا عن حقهم المشروع في حياة كريمة؟

أقول ربما.

التعليقات متوقفه