الأزمة السياسية فى أرمينيا:جرح كاراباخ مازال ينزف.. النزاع قد يستقطب قوى خارجية

539

يبدو أن الأمور فى أرمينيا قبل الحرب فى كاراباخ بينها وبين اذربيجان ليست كما بعدها، فقد جاء إلى السلطة فى البلاد رئيس الوزراء نيكول باشينيان، نتيجة ثورة مخملية أطاح فيها برئيس البلاد روبرت كوتشريان، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن ولم يستقر رئيس الوزراء الأرمينى باشينيان طويلاً على كرسى الحكم حتى فاجأته حرب ناجورنو كاراباخ التى استعانت فيها أذربيجان بتركيا، أو لنقل أن تركيا تدخلت لعدد من الأسباب منها الدينى والثقافى أو حتى سبب عرقى، ناهيك عن الطموح التركيى الجيوسياسى فى منطقة جنوب القوقاز ليكون نقطة انطلاق لمنطقة وسط آسيا وصولا إلى غرب الصين.

روسيا استطاعت إنقاذ أرمينيا من هزيمة ساحقة، حيث تدخلت فى الوقت المناسب إلى جوار أرمينيا حليفتها القديمة، والتى تأوى فيها إحدى قواعدها العسكرية. جاء الإنقاذ الروسى متأخراً بعض الشيء بسبب أن رئيس الوزراء الأرمينى باشينيان الذى جاء على موجة من موجات الثورات الملونة، وأزاح عن السلطة بـ “كوتشريان” حليف روسيا التقليدى، وأعلن الرئيس بوتين حينها أن روسيا لن تتدخل إلا إذا اعتدت أذربيجان على الأراضى الأرمينية، ما كان يعنى ضمناً أن روسيا لا تعترف بكاراباخ جزءا من أرمينيا، بالإضافة إلى أن روسيا ذات الخمسة وعشرين مليون مسلم رفضت التدخل على أساس دينى فى هذه القضية السابقة، حتى لا تثير مشاعر المسلمين فى الداخل الروسى.

بعد انتهاء الحرب اندلعت موجة من التظاهرات المطالبة بإقالة نيكول باشينيان رئيس الوزراء على خلفية ما قالوا إنه هزيمة عسكرية نكراء أمام أذربيجان، وأنه سلم كاراباخ لأذربيجان، ورغم تبرير الرجل بأنه لم يكن من الممكن الاستمرار فى الحرب وإلا ستكون الخسائر أكبر سواء فى الأراضى أو فى الجيش. على أى حال هدأت الأمور، ولكن فيما يبدو أنها كانت إلى حين.

كيف تطورت الأزمة الحالية، فى يوم 25 فبراير 2021، طالبت رئاسة أركان الجيش الأرمينى باستقالة رئيس الوزراء، مبررين ذلك بعدم قدرة باشينيان على اتخاذ القرارات المناسبة فى الأزمات، من جانبه وصف الأخير مطالب هيئة الأركان بأنها انقلاب عسكرى وأعلن عن اتخاذه قراراً بإقالة رئيس أركان الجيش أونيك جاسباريان. وفى منتصف النهار خرج رئيس الوزراء من شرفة مقره، بعد مسيرة فى شوارع العاصمة يريفان، وأعلن أنه أعطى الأوامر للعسكريين بأن يقوموا بأعمالهم.

فى نفس الوقت بدأ المعارضون لرئيس الوزراء فعالياتهم فى وسط العاصمة يريفان، أحد قادة المعارضة ويدعى فازجين فانوكيان دعا خصوم رئيس الوزراء بالتجمع أمام البرلمان تأييداً للجيش، وتم نصب خيام للإقامة فى تلك المنطقة. فى المساء أعلن أن رئيس الوزراء باشينيان ناقش الوضع فى أرمينيا مع الرئيس بوتين، الذى يعتبر أن الأزمة هى شأن أرمينى داخلى، وأن موسكو تدعم تسوية الأزمة فى إطار القانون، وأعرب الرئيس بوتين عن دعمه للسلطة الشرعية فى البلاد، ومثل روسيا دعت كذلك الولايات المتحدة أطراف الأزمة إلى ضبط النفس.

لكن إذا رجعنا للخلف قليلاً أى يوم 24 فبراير 2021، نجد أن رئيس الوزراء بدأ المواجهة بأن أقال نائب رئيس هيئة أركان الجيش تيران خاتشاريان، الذى كما يقول باشينيان لم يأخذ موافقته على مدى فعالية الصواريخ الروسية التكتيكية من طراز “إسكندر” التى تمتلكها أرمينيا. كما أن رئيس الوزراء الأرمينى فى إحدى المقابلات الصحفية أثناء الحرب فى كاراباخ فى خريف العام الماضى أعلن أن الصواريخ من طراز “إسكندر” لم تنفجر، وأنها انفجرت بنسبة 10% فقط .

النقاش حول صواريخ إسكندر بدأه رئيس أرمينيا الأسبق سيرج سارجسيان، الذى فى عهده حصلت أرمينيا على هذه الصواريخ، ووجه اللوم للقيادة السياسية على أنها لم تستخدم هذه الصواريخ فى اليوم الثالث للحرب فى كاراباخ. فى نوفمبر من العام الماضى أعلن أحد الخبراء العسكريين فى الجيش الأرمينى أن الصواريخ تم استخدامها بالفعل، لكنه لم يوضح مدى تأثير هذه الصواريخ.

ما كان لروسيا أن تقف مكتوفة الأيدى حيال تشويه سمعة السلاح الروسى وصواريخ “إسكندر” التى عندما انتجتها روسيا قضت مضاجع الأوروبيين وحلف الناتو. أعلنت وزارة الدفاع الروسية تعقيباً على تشويه سمعة السلاح الروسى بقولها إنه جرت عملية تضليل لرئيس الوزراء باشينيان، وأشارت الوزارة إلى إنه أثناء حرب كاراباخ لم تستخدم هذه الصواريخ على الإطلاق، وأنها موجودة بأكملها فى المخازن.

وبعيداً عن الجدل حول الصواريخ، فإن رئيس أرمينيا السابق روبرت كوتشريان دعا المواطنين إلى الوقوف إلى جوار الجيش فى المواجهة مع رئيس الوزراء، وقال “إن الحكومة التى هزمت فى الحرب وسلمت أراضينا يجب أن تستقيل، وإقالتها أساس نهضتنا”.

فى نفس الوقت فعاليات المعارضة المطالبة بإقالة رئيس الوزراء، مازالت مستمرة، فى وسط العاصمة يريفان وأغلقوا عددا من الشوارع، واتهم قادة المعارضة رئيس الوزراء بأنه يحاول إشعال حرب أهلية فى البلاد. روسيا تراقب الوضع فى أرمينيا، وعلى لسان السكرتير الصحفى للرئيس بوتين قال إن المعدات العسكرية الروسية أثبتت جدارتها فى مناطق عديدة من العالم.

أخر الأنباء أشارت إلى أن الرئيس الأرمينى رفض إقالة رئيس الأركان فى الوقت الذى يصر فيه رئيس الوزراء على أنه كان ينوى الانقلاب على سلطته، ومازالت الأزمة تراوح مكانها، فالرئيس الذى يعتبر منصبه شرفياً حيث تعتبر أرمينيا جمهورية برلمانية ولكن يبدو أن من سلطاته الموافقة النهائية على قرارات رئيس الحكومة.

يبدو لى أن الأزمة فى أرمينيا ستكون عنصر استقطاب لقوى خارجية عديدة، أنا أتفهم موقف روسيا وخطورة أى اضطرابات فى منطقة جنوب القوقاز على مناطقها فى شمال القوقاز، لكن أن يعرض الرئيس التركى إردوجان عن استعداده لإرسال قوات حفظ سلام إلى أرمينيا بدعوى تفادى حرب أهلية قد تؤثر على المنطقة كلها فهذا أمر غريب، وانتقد الرئيس التركى رئيس الوزراء الأرمينى والذى وصفه بأنه جاء للحكم عن طريق “ثورة برتقالية” والآن عندما يطالبونه بالرحيل يرفض ذلك.

على أى حال حتى الآن روسيا ورغم اعتبارها أن ما يحدث فى أرمينيا هو شأن داخلى، وسارعت بعقد اجتماع يضم أطراف أزمة كاراباخ فى موسكو، حيث أنها قلقة من اشتعال حرب أهلية فى أرمينيا الحليفة وما قد يسببه من متاعب لقوات حفظ السلام الروسية الموجودة فى كاراباخ، وتداعياته على القاعدة العسكرية الروسية فى أرمينيا، وقد يجلب الأمر متاعب لتركيا التى تشارك بشكل رمزى كمراقب لوقف إطلاق النار فى كاراباخ، بينما تقوم أذربيجان ببناء مطار دولى فى كاراباخ لتثبيت الوضع القائم الذى أعاد لها حقها فى أراضيها التى كانت تسيطر عليها أرمينيا.

فى دولة مثل أرمينيا حالتها الاقتصادية ليست على ما يرام، وخارجة من حرب صعبة العام الماضى، بلا شك النزاع الداخلى الحالى سيكون له تداعيات كبيرة على الوضع الاقتصادى داخل البلاد، معظم الخبراء يتوقعون متاعب اقتصادية كبيرة ليريفان، خاصة فى وقت جائحة كورونا، ومما لا شك فيه أن التلويح بالحرب الأهلية سيخيف أى مستثمر من الممكن أن يفكر فى الاستثمار فى أرمينيا. ومن النتائج الأولية للانهيار الاقتصادى كان ارتفاع سعر الدولار أمام العملة المحلية الدرام بمقدار 5ـ6 درام مرة واحدة. أرمينيا دولة فقيرة فى مواردها وتعيش فى الأساس على المحروقات الروسية وتأجير قاعدة عسكرية، والخلافات السياسية لن تزيد الموقف الاقتصادى إلا تعقيداً.

وحول ما يمكن أن يؤول إليه مصير رئيس الوزراء نيكول باشينيان، فقد لخصه وزير الدفاع الأرمينى الأسبق فاجين ساركيسيان فى تعليقه على الوضع فى بلاده بقوله، إن رئيس الوزراء يقوم بمحاولات على استحياء بإعطاء أوامر للنخبة العسكرية من الميدان مع أنصاره لإظهار أنه مازال يسيطر على الأمور، وأضاف إنه فى حال فقدان النخبة العسكرية الثقة فى من يشغل منصب القائد الأعلى فليس أمام الأخير سوى حل من اثنين: إما أن يغير جميع الضباط فى القوات المسلحة وهذا مستحيل القيام به مرة واحدة أو أن يستقيل دون إحداث اضطرابات ومشاكل. العالم يرقب ما سيؤول إليه الصراع بين الجيش والسلطة فى أرمينيا، لكن الذى لا شك فيه أن هزيمة كاراباخ أحدثت شرخا فى البنية الاجتماعية والسياسية لن يندمل لفترة طويلة قادمة.

التعليقات متوقفه