فريدة النقاش تكتب:بين الثقافة والسياسة

565

قضية للمناقشة

بين الثقافة والسياسة

*بقلم فريدة النقاش

في حوارها مع الزميل “باسم صادق” في “الأهرام” فتحت وزيرة الثقافة الدكتورة “إيناس عبدالدائم” كل أبواب العمل الثقافي في بلادنا, ولا أظن أن المثقفين والمؤسسات الثقافية سوف يسمحون بإغلاقها قبل أن يدور حوار واسع بتجاوز الأطر النخبوية حول أدوار الثقافة, وعلاقتها بالجماهير العريضة, ذلك أن مفهومًا ضيقًا قد ساد لا في بلادنا فقط وإنما في أغلبية بلدان العالم, يقول هذا المفهوم إن الثقافة الرفيعة سوف تبقي دائمًا حكرًا علي نخبة ضيقة, بينما تتولى الثقافة التجارية التي ترتبط وثيقا بالإعلام السيطرة على وجدان الجماهير العريضة, استجابة لذوق هذه الجماهير.

ولا أنسى في هذا الصدد ما حكته لي عاملة بسيطة قبل عشرين عامًا عن كيف أن ابنتها قد نجحت في امتحان القبول بمعهد البالية, ثم أخذت تدعو للمثقف والوزير الراحل “ثروت عكاشة”, فلولاه كما قالت لم يكن بوسعها أن تلحق ابنتها بمثل هذا المعهد الراقي مجانا.

يبين لنا حوار وزيرة الثقافة أن ثمة في مصر بنية تحتية ثقافية متينة وواسعة الانتشار, إذ يتضمن حديث الوزيرة بعض احصائيات ذات دلالة خاصة فيما يتعلق بقصور وبيوت الثقافة. ومع ذلك تبقي هناك بالقطع مدن وقري تفتقر لوجود مثل هذه المؤسسات, ولا يزال الموهوبون من أبنائها يبدأون حياتهم العملية ومحاولتهم للالتحاق بالوسط الثقافي عبر الهجرة لا إلى المدن وإنما مباشرة إلى العاصمة, هذا بينما تندثر مواهب أخرى لعجز أصحابها عن الالتحاق بالعاصمة.

وليست هذه بالقطع مسئولية وزيرة الثقافة, لأن المركزية الشديدة لا تزال تتحكم فينا رغم كل الجهود المبذولة للتغلب عليها.

وتدلنا نظرة فاحصة لغالبية المثقفين المصريين علي أن القاهريين الأقحاح من بينهم هم الأقلية, بينما جاءت الأغلبية من قرى ونجوع ومدن مصر شمالها وجنوبها. وهو الوضع الذي حال دون بروز مراكز ثقافية نابضة بالحياة في أي من هذه الأقاليم.

ويعرف الذين شاركوا في المؤتمرات والمهرجانات واللقاءات التي نظمتها وزارة الثقافة والثقافة الجماهيرية علي نحو خاص مثلي، يعرفون هذا الوهج الذي كان يشع في هذه المدن والبلدات البعيدة عن العاصمة, وهو ما كان يبين مدي تعطش الجماهير العريضة للثقافة الرفيعة. ولا تزال فرقة الباليه المصرية تحتفظ في سجلاتها وذاكرتها بصور عروض الباليه التي أقامتها في الهواء الطلق لعمال السد العالي, والاستجابة المبهرة من قبل هذا الجمهور الذي لم يكن قد اعتاد مشاهدة هذا النوع الرفيع من الرقص قبل ذلك. حدث ذلك في زمن كانت الثقافة تحتل فيه موقعا متقدما علي جدول أعمال العمل الوطني, كان عبدالحليم حافظ يغني للسد العالي, وتنظم أم كلثوم رحلات خارجية تخصص دخلها لتسليح الجيش الوطني, ذلك أن الثقافة بوسعها أن تتطور في شكل طفرات حين تشكل هي القاعدة النابضة للتوجهات السياسية والتنموية والتقدمية التي تضع الثقافة في مكان متقدم.

تعرف الدكتورة إيناس عبدالدايم جيدًا هذه الحقائق كلها, وهي المعرفة التي تضاعف من مسئوليتها عن ملف الثقافة, وتؤكد لها هذه المعرفة حاجتها لانشاء علاقات وطيدة مع  المثقفين ومؤسساتهم حتي تتعرف علي أرض الواقع علي احتياجاتهم الفعلية, وذلك فطبيعة الحال بعد انحسار الوباء الذي أوقف المراكب السايرة كما يقال.

واختار من ثراء الحوار مع الوزيرة قضية مركزية لعلها تشكل أساسًا بوسعنا أن نبني عليه لمستقبل الثقافة في مصر. فهي تقول لقد انتهت أزمة الجزر المنعزلة التي كانت معروفة من قبل. وإن كنا نشكر الوزيرة علي هذا التفاؤل فلا أظن أن التقاء الجزر المنعزلة وتكاملها قد تم, ولا تزال هناك شروط لهذا التلاقي غير متوافرة سواء بالنسبة للفن التشكيلي أو الباليه علي الأقل, ولا يزال جمهور هذين الشكلين للإبداع الثقافي محدودًا ونخبويًّا, ويحتاج لرؤي جديدة ومبدعة.

ونأتي لواحدة من أهم المعوقات التي تقف في وجه الإبداع الثقافي وتعوق مسيرته ألا وهي الدور الذي تلعبه أجهزة الأمن في تزكية أو رفض وصول بعض المثقفين إلى مواقع بعينها في المؤسسات الثقافية مما يخلق حالة من التوجس والخوف في أوساط المثقفين.

حين كتب طه حسين كتابه التأسيسي عن مستقبل الثقافة في مصر وجد نفسه يبدأ وينتهي بقضية التعليم, ويتحدث خبراؤنا التربويون بقلق بالغ الآن عن ظاهرة الجزر المنعزلة بحق ما بين تعليم ديني وتعليم مدني, تعليم أجنبي وتعليم محلي وتتجلي خلاصة الانقسام في شكل تعليم للفقراء وتعليم الأغنياء حتي أن زميلة صحفية متخصصة في شئون التعليم قالت إن النظام القائم في التعليم سوف يؤدي إلى تقسيم البلاد.

فإذا كنا نتفق مع طه حسين في أن التعليم هو الأساس الأولي الذي تبني عليه الثقافة, وأنه لا ثقافة قومية بدون تعليم قومي فسوف نجد أنفسنا في كل من ميادين الثقافة والتعليم أمام مهمات يتعين علي العمل الوطني إنجازها من أجل تطور صحي ومتناغم لبلادنا في الميادين كافة. يبدأ بإلغاء ما تبقي من قوانين مقيدة للحريات.

التعليقات متوقفه