“اللعب تحت المطر”لـ”حاتم رضوان”

يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com

357

“اللعب تحت المطر”لـ”حاتم رضوان” 

رغم هذه التعليقات التي لم تنقطع بعد من نشرات الأخبار كانت دهشة الناس كبيرة. كانوا يفتحون عيونهم ما استطاعوا. يبحلقون ثم يلتفتون بعيدا عن العربة الزرقاء. وهم يتحسسون جيوبهم بأيد مرتعشة. كانوا يلوذون بحيطان الأبنية العالية. نازلين مع شوارع الميدان. كانت الشوارع ترميهم إلى شوارع فحارات فأزقة. وكانت الأزقة المسدودة تداري ملامحهم المتغيرة.

****

وخلال أيام قليلة تعود الناس على رؤية العربة الزرقاء وهي تقف على الرصيف الأوسط في مواجهة التمثال. وكذا تعودوا على حمل بطاقاتهم الشخصية. حتى الصغار كانوا حريصين على المشي بصحبة أباءهم أو أمهاتهم. تركوا عادة اللعب تحت سماء الشارع، ورضوا بالطرقات الضيقة أمام بيوتهم وبالغرف التي تخنقها الأسقف.

****

في الأيام الأولى ومنذ وطئت العربة الرصيف الأوسط والأربعة يقفون حولها. كل واحد فيهم كان مشدودًا مثل التمثال الواقف وسط الميدان. كانت بنادقهم مدلاة من أكتافهم ومصوبة في اتجاه الناس الذين انفرط سكوتهم بنفس الهمسات الخاطفة:

متى يرحلون؟!!

****

مضت الأيام وصاحب البدلة البيضاء يمارس نفس الطقوس. يسحب الكاب من فوق التابلوه. يضعه على رأسه وينزل. يدور حول العربة دورة واحدة. تنفر فيها عروق رقبته بمتوالية من الألفاظ الخارجة، فتختفي الارتخاءات المتسللة إلى أجساد الأربعة. يعود بعد ذلك إلى كابينة العربة. يخلع الكاب ثم يدفن رأسه في الجريدة من جديد.

****

مرت الشهور رتيبة وصاحب البدلة يجلس بصفة شبه مستمرة داخل العربة. تخلى عن تأدية طقوسه اليومية في النزول والدوران. اكتفى فقط بألفاظه التي يرميها من النافذة في أوقات متباعدة، تلك الألفاظ التي فقدت بمرور الأيام تأثيرها السحري على الواقفين بمحيط العربة. حتى أنهم تجرأوا وخلعوا بنادقهم واستندوا إليها، وقد رسمت عليهم الارتخاءات شكلا ثابتا. ويقسم مصلو الفجر أنهم كانوا يرون وهم في طريقهم إلى مسجد المحطة الأربعة متقرفصين في أماكنهم فوق الرصيف، وهم يضعون أيديهم على أفواههم يغالبون النوم.

****

تساءل الناس في حيرة:

هل يقرأ صاحب البدلة الجريدة حقا أم أنه يداري فيها رأسه من تلك الشمس التي تضرب في زجاج العربة؟!!

بعضهم قال في عدم ثقة بإن عينيه كانتا تدوران من خلف الجريدة في كل مكان.

****

في ظل العمارة المقابلة فوجئ الناس به يجلس فوق كرسي من الخيزران. كان يرد السلام على الداخلين والخارجين في ود زائد. في بعض الأحيان كان يبدؤهم السلام.

صاحب قهوة البورصة جنوب الميدان، أصحاب المحلات الملاصقة لسور المحطة، الباعة الجائلون كانوا جميعهم يصبِّحون ويمسّْون على الواقفين والجالس مرة بالسندويتشات ومرة بحبات الفاكهة ومرات كثيرة بأكواب الشاي والسحلب والقرفة.

*****

أهمل الناس حمل بطاقاتهم. توافدوا من الأزقة والحارات والشوارع. تخالطوا في الميدان. يتخابطون أثناء سيرهم المتعجل. يتبادلون السلام والسباب. يفاصلون الباعة هؤلاء الذين عادوا إلى التكوم من جديد فوق الأرصفة وتحتها. يتدافعون داخل العربات الرديئة في الموقف الجانبي متجهين فيها إلى القرى.

الصغار عادوا إلى اللعب في الشارع. يجرون بين العربات المسرعة. يقذفون بعضهم بالطوب. يضحكون من القلوب. يستقبلون حبات المطر فوق الكفوف ويغنون.

****

أثناء الأحداث الأخيرة وبعدها جاءت عربات زرقاء أخرى كثيرة. أخذت تصب من مؤخراتها أصحاب الأجسام المشدودة والبدل البيضاء. امتلأ الميدان بهم، واختبأ الناس من جديد داخل بيوتهم يترقبون العودة.

التعليقات متوقفه