فى عيد ميلاده التسعين لا يزال يثير الجدل داخل روسيا والعالم:جورباتشوف استسلم أمام الغرب وأضاع إمبراطورية.. أم محرر شرق روسيا وأوروبا الشرقية؟!

374

أتم ميخائيل جورباتشوف فى الثانى من مارس الجارى عامه التسعين، وفيما احتفل أصدقاء جورباتشوف بعيد ميلاده باعتباره الشخصية التى غيرت مجرى التاريخ فى العالم من وجهة نظر الغرب، استقبل البعض الآخر عيد ميلاده باعتباره ذكرى الخيانة وهدم الإمبراطورية السوفيتية التى احتلت سدس مساحة الكرة الأرضية واعتبروه الشخص الذى أعلن استسلام الاتحاد السوفيتى فى الحرب الباردة. تلقى جورباتشوف تهانى بعيد ميلاده التسعين من كل قادة الغرب، ومن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ومن رئيس وزرائه.
شخصية جورباتشوف مثيرة للجدل حتى عندما كان فى السلطة، وبينما احتفى الغرب بجورباتشوف فى عيد ميلاده وعددوا “خدماته” التى قدمها لهم وأهمها سياسة الإصلاحات المتمثلة فى البيريسترويكا والمكاشفة وسحب القوات السوفيتية من أفغانستان، ودوره الذى لم ينساه الغرب فى الاستسلام للغرب فى الحرب الباردة، والأهم هو مساهمته فى هدم أحد أهم رموز الحرب الباردة وهو سور برلين وتوحيد ألمانيا، حيث يعتبره مواطنوها الأب الروحى للوحدة الألمانية، وحل حلف وارسو وهدم الاتحاد السوفيتى نفسه.
يتذكرون فى الغرب كذلك حصول جورباتشوف على جائزة نوبل للسلام عام 1990، من هنا يعتبر الدور الجيوسياسى لجورباتشوف هو الأهم فى تاريخ العالم الحديث، ولا يمل القادة فى الغرب من الحديث عن أن روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتى أصابها الضعف وجورباتشوف كان نقطة تحول مهمة ومفصلية فى العد التنازلى لروسيا من وجهة نظر قادة الغرب.
فى هذا الاتجاه يعتمد تقييم جورباتشوف على الرأى العام فى روسيا، ففى استطلاع للرأى يعتقد 77% من الشعب الروسى أن جورباتشوف لعب دوراً سلبياً فى السياسة السوفيتية، وفى استطلاع آخر يعتقد 51% من الشعب الروسى أن ما قام به جورباتشوف ألحق الضرر أكثر من النفع ببلادهم، وهذا يعنى أن من كان يرى فى تصرفات جورباتشوف سلبية انخفض بنسبة 10% خلال خمس سنوات فقد كانت نفس النسبة 61% قبل خمس سنوات، وفى اعتقاد 32% أن ما قام به جورباتشوف فيه الجيد ولا يخلو كذلك من الضرر.
فى تصورى أن إصلاحات جورباتشوف لم تكن محل نقاش من أحد، لكن أن تؤدى هذه الإصلاحات إلى انهيار الدولة بأكملها، فإن هذا ما كان محط الأنظار والنقد، وفيما يتعلق بالعلاقة بالغرب فى حينها وفى ذروة الحرب الباردة، العديد من الأسئلة تطرح نفسها، مثلاً عندما علم جورباتشوف باجتماع غابة بيلوفيجسكايا فى بيلاروسيا، لماذا لم يلق القبض على زعماء روسيا يلتسين وبيلاروسيا شوشكييفتش وأوكرانيا كرافتشوك وهم يعدون من هناك خطتهم لهدم الاتحاد السوفيتى وإقامة ما عرف برابطة الدول المستقلة على أنقاضه وكان يعلم بالاجتماع!
لماذا سحب جورباتشوف القوات السوفيتية من أوروبا، دون أى تنازل من الغرب، ووافق على توحيد ألمانيا والسماح لها بعضوية الناتو، بل وقام بحل حلف وارسو، دون أن يطلب أى تنازل مقابل ذلك من الغرب. وقوض العلاقات مع كوبا وهى كانت مثل الشوكة فى خاصرة الولايات المتحدة، وانسحب من أفغانستان مهرولاً وترك رئيسها نجيب الله معلقا على مشنقة الإرهابيين ما أضر بسمعة الاتحاد السوفيتى أمام حلفائه فى العالم، وجعل الغرب وحلف الناتو بصرف النظر عن الملابسات، يزحف إلى الشرق ليقترب من الحدود الروسية والآن من الحدود الجنوبية لروسيا فى أوكرانيا.
ولماذا عندما حل حلف وارسو وأعطى الحرية لدول الحلف، لم يمنع انضمامها للناتو، وهو الأمر الذى أدخل روسيا الحديثة فى سباق تسلح جديد وهدد الحدود الغربية لروسيا وجعلها تزيد من الإنفاق العسكرى، وجعل دولة شقيقة مثل أوكرانيا تهرول للانضمام للاتحاد الأوروبى والناتو الأمر الذى لو حدث سيحكم حصار الناتو حول روسيا الاتحادية. الأسئلة كثيرة وكلها تثير الشكوك وتشير إلى فظاعة التنازلات التى قدمها جورباتشوف. وماذا عن اكتشاف رئيس الكى جى بى لجاسوس أو عميل غربى وقرر الإعلان عن اسمه وكان عضواً فى المكتب السياسى للحزب الشيوعى لكن جورباتشوف منعه من ذلك، العضو هو الكسندر ياكوفليف، وكان يلقب بمهندس البيريسترويكا.
جميع من تحدث عن فضائل جورباتشوف من المواطنين الروس، من الأجيال الأحدث نسبياً ولخصوها فى أنه قضى على سيطرة الحزب الواحد ومنح الشعب الحرية سواء الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية، وهناك كثيرون يعتقدون بأنه كان من الصعب على الاتحاد السوفيتى العيش فى أجواء من الحريات غير تلك التى نشأ فيها، على الجانب الآخر يعتبره البعض بمثابة التُّربى الذى دفن الاتحاد السوفيتى، وأهان دولة عظمى كانت مفعمة بالفخر والعزة، هزمت الفاشية فى الحرب العالمية الثانية. الاتحاد السوفيتى يكمل 30 عاماً هذا العام على انهياره، يتذكر مواطنو أوروبا الشرقية “محررهم” جورباتشوف ويقولون إنه حرر 164 مليون هم سكان أوروبا الشرقية التى كانت منخرطة فى حلف وارسو، لكن فى نفس الوقت أدى الفراغ الذى تركه الاتحاد السوفيتى إلى حرب ضروس فى يوغسلافيا مثلاً فى قلب أوروبا، وهى حرب مازالت حتى الآن لم تخمد جذوتها تماماً.
لم يكن جورباتشوف اقتصادياً، ولذلك لم يستطع الحفاظ على الاتحاد السوفيتى الذى كانت مشكلته الأساسية تكمن فى اقتصاد منهك ويعتمد على تصدير الخامات بالدرجة الأولى وفى نفس الوقت تم جره إلى سباق تسلح، وحرب أفغانستان، وجاء انفجار مفاعل تشيرنوبل فهز الثقة فى المنظومة السوفيتية واعتبرها البعض خطرا على العالم كله.
هناك عنصر هام جداً وكان نقطة ضعف جورباتشوف، هذا العنصر هو أن انتخاب يلتسين جاء بالاقتراع السرى المباشر من قبل الشعب رئيساً لروسيا، فى حين انتخاب جورباتشوف رئيساً كان بواسطة مجلس السوفيت الأعلى السوفيتى أى بالاقتراع غير المباشر، هذا الأمر جعل كفة يلتسين هى الأرجح، فهو يملك سلطة فعلية مستمدة من الشعب فى حين جورباتشوف سلطته من مؤتمر حزبى يناضل يلتسين من أجل القضاء عليه وتحجيم سلطاته وتقليص امتيازاته، لدرجة أن جورباتشوف عندما حوصر فى القرم إبان انقلاب أغسطس كان أخشى ما يخشاه أن يكون الإنقلابيون القادمون إليه من طرف يلتسين، وتنفس الصعداء عندما عرف أنهم من رفاقه من الحزب الذى يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وإذا أردنا أن نقارن بين يلتسين والحزب الشيوعى السوفيتى وجورباتشوف، علينا أن ننظر ماذا فعل يلتسين مع البرلمان المتمرد فى اكتوبر 1993، وما فعل جورباتشوف مع المتمردين الذين قاموا “بانقلاب” عليه وماذا فعل المتمردون مع من وقف ضدهم. لماذا لم يعتقل جورباتشوف يلتسين ورفاقه الذين تآمروا على الدولة مع الخارج لدرجة أن الرئيس بوش علم بانهيار الاتحاد السوفيتى قبل رئيسه جورباتشوف، لا أحد يدرى هل كان جورباتشوف متواطئا، فعند عودة يلتسين من اجتماع هدم الاتحاد السوفيتى استقبله جورباتشوف بشكل عادى وهو الذى كان يخشى اعتقاله، بل أن الزعماء المتآمرين كانوا يخشون أن تقوم المخابرات السوفيتية باعتقالهم أثناء الاجتماع، ومع علم جورباتشوف بالإجتماع لم يفعل شيئا.
لقد كان تواطؤ جورباتشوف فى هدم الاتحاد السوفيتى أكبر خدمة قدمها للغرب، لكن وصول الرئيس بوتين للحكم ضيع على الولايات المتحدة فرصة الانفراد بالعالم كقطب أوحد، وكلنا يدرك الآن أن الكثير من الدول، حتى الحليفة منها للولايات المتحدة تستطيع أن تعول على روسيا سواء من حيث الدعم على الساحة الدولية، أو حتى الدعم العسكرى، وجود روسيا القوية الآن جعل واشنطن تفكر كثيراً قبل فرض عقوبات أو التنكيل بأى دولة، بل أقول أكثر من ذلك، الطبقة العاملة حصلت على العديد من المكاسب بفضل الاتحاد السوفيتى فقد أجبر النظام السوفيتى الأنظمة الرأسمالية على منح العديد من الامتيازات للعمال.
جورباتشوف ذهب، لكن روسيا بقيت، ومازالت ارتدادات زلزال انهيار الاتحاد السوفيتى قائمة، ورغم الانهيار السريع نسبياً للإمبراطورية السوفيتية، إلا أن الهزات الارتدادية ستستمر لفترة طويلة قادمة، والأمر مرهون باستقرار روسيا وتبؤها المكانة التى تستحق، والقدرة على إحداث التوازن فى العالم.
فى النهاية أود القول بأن جورباتشوف بتسببه فى انهيار الإمبراطورية السوفيتية لم يؤذ فقط بلاده بل سبب ضررا لدول كثيرة من العالم الثالث حيث كان الاتحاد السوفيتى هو السند والداعم.
واختتم المقال بمقولة لأحد المواطنين الروس عندما علم أن جورباتشوف هو الأطول عمراً بين الزعماء السوفيت قاطبة، عندما قال “إن عديمى الضمير والإحساس يعيشون عادة فترات أطول” وكان يقصد جورباتشوف، والأهم أن التاريخ لم يقل كلمته بعد فى اختفاء الاتحاد السوفيتى من على خريطة العالم.

التعليقات متوقفه