أمريكا وروسيا .. أزمات متكررة  :بداية حرب باردة جديدة .. والعالم فى انتظار ستار حديدى

633

الأزمة الروسية الأمريكية الحالية ربما تكون هى الأعنف والأعمق فى العلاقات بين البلدين منذ عام 1979، عندما تدخل الاتحاد السوفيتى فى افغانستان، لكن لا شك فى عصر ما بعد الاتحاد السوفيتى وانتهاء الحرب الباردة، كانت الأزمة الأعنف هى تدخل الناتو بقيادة الولايات المتحدة فى يوغسلافيا عام 1999 وقصف بلجراد، على خلفية أزمة كوسوفو، واتهام حكومتها بعمليات تطهير عرقى، هذه الأزمة كانت أول الخلافات العميقة بين روسيا الحديثة والولايات المتحدة، حينها اكتفى رئيس الوزراء الروسى آنذاك يفجينى بريماكوف باستدارة طائرته فوق المحيط الأطلنطى والعودة لموسكو وهو فى طريقه إلى زيارة واشنطن. فقد كانت موسكو تنظر إلى الحرب على يوغسلافيا باعتبارها عدوانا صريحا على دولة ذات سيادة، حينها أوقفت روسيا كل أشكال التعاون مع حلف شمال الأطلنطى (الناتو).

وتبقى مسألة نشر منظومة مضادة للصواريخ فى أوروبا من الأمور الخلافية فى العلاقة بين روسيا من ناحية والولايات المتحدة وحلف الناتو من ناحية أخرى، ففى عام 2002 خرجت الولايات المتحدة من جانب واحد من الاتفاق الخاص بنشر منظومة الدفاع الصاروخى الموقعة عام 1972. وكانت واشنطن قد أعلنت قبل ذلك مراراً وتكراراً عن رغبتها فى الخروج من هذا الاتفاق لأنه على حد قولها لا يحقق ما تصبو إليه فى فترة ما بعد الاتحاد السوفيتى، وبدأت فى إنشاء منظومة قومية للدفاع الصاروخى، فى نفس الوقت أصرت روسيا أن تبقى على الاتفاق، الذى يحمل الطابع الدولى وتعتبره موسكو “حجر الزاوية لتحقيق الاستقرار الدولى الاستراتيجى والأمن”.

بعد خروج واشنطن من الاتفاق وفى 17 سبتمبر 2009، بدأت فى إنشاء منظومة دفاع صاروخى كونية على مراحل وفق الرئيس باراك أوباما، تبدأ من أوروبا، فى الوقت الراهن انتهت أمريكا من هذه المرحلة، ومن المقرر أن تقوم بإنشاء منظومات مشابهة فى شرق آسيا والمحيط الهادى ثم فى الشرق الأوسط. روسيا كانت ومازالت تطالب بضمان ألا تكون منظومة الدفاع الصاروخى فى أوروبا موجهة إليها. فى عام 2003 كان غزو العراق دون قرار أممى، فى عهد الرئيس جورج بوش الابن، بدعوى وجود أسلحة دمار شامل لدى صدام حسين، ثم ثبت بعد الحرب كذب هذا الإدعاء، ومازال العراق يعيش فى حالة من الفوضى حتى يومنا هذا، الرئيس فلاديمير بوتين وصف غزو العراق بأنه “خطأ سياسى كبير” معرباً عن مخاوفه من انهيار منظومة الأمن الدولية.

محطة الخلاف المحورية الجديدة فى العلاقات الأمريكية ـ الروسية كانت تكنولوجيا “الثورات الملونة” عام 2003 والممولة من الملياردير الأمريكى جورج سورس والتى تم تجربتها لأول مرة فى جورجيا، وتم من خلالها الإطاحة بالرئيس شيفاردنادزة واستيلاء ميخائيل ساكاشفيلى على السلطة، انتهى حكمه بحرب مع روسيا عام 2008، ولم تستطع واشنطن فعل شئ إزاء رد روسيا العنيف على قصف الرئيس الجورجى لأوسيتيا الجنوبية التى يوجد بها قوات حفظ سلام روسية. نفس الشئ حدث فى أوكرانيا وبالمخالفة لكل الأعراف الديموقراطية تم إجراء جولة انتخابات ثالثة لينجح يوشينكو فيما عرف “بثورة البرتقالى” ، وبعد أول فترة رئاسية خسر الانتخابات وجاء يانوكوفيتش الموالى لروسيا، الذى أطاحت به ثورة أخرى عام 2014، لكن روسيا هذه المرة رفضت هذا العبث الغربى على مقربة من حدودها الجنوبية فاستعادت القرم، واعترفت باستقلال مقاطعتين فى شرق أوكرانيا كانتا تطالبان بحكم ذاتى واسع الصلاحيات، مما حرمها من فكرة الانضمام للاتحاد الأوروبى والناتو فى القريب المنظور على الأقل.

نقاط الخلاف مع واشنطن كثيرة، ليبيا ثم سوريا من أهم مناطق النزاع بين الدولتين العظميين فى الوقت الراهن، لكن هذه الأزمات لم تصل بالعلاقات إلى ما وصلت إليه الأمور فى الوقت الراهن، فلم تسحب روسيا سفيرها ولو حتى بالصيغة الدبلوماسية المهذبة للتشاور، ثم رفض الإفصاح عن موعد عودة السفير فى واشنطن، عندما قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زخاروفا “ليأخذ التشاور القدر الذى يأخذه من الوقت”.

كيف بدأت الأزمة الحالية، التى تنذر بحرب باردة جديدة. بداية أعلنت الولايات المتحدة عن عزمها نشر صواريخ فى جنوب شرق آسيا فى كوريا الجنوبية واليابان، ما جعل روسيا وعلى لسان وزير دفاعها تعلن عن أنها سوف ترد على مثل هذه التصرفات، جاءت التصرفات الأمريكية مع فرض عقوبات جديدة على موسكو عقب اتهام الأخيرة باعتقال المدون المعارض نافالنى بعد محاولة (تسميمه) حسب وسائل الإعلام الغربية، رغم عدم تقديم المانيا التى يفترض أنها عالجت نافالنى من (التسمم) أى تقرير عن نتائج التحاليل التى أجرتها لنافالنى.

ثم سكب الرئيس بايدن الزيت على النار عندما أعلن فى حوار محطة “إيه.بى.سى” الإخبارية التليفزيونية، إن الرئيس بوتين “سيدفع الثمن” إذا اتضح أنه مذنب، وعندما سأله المذيع هل بوتين قاتل أومأ برأسه فيما يعنى أنه يؤكد ذلك. أقامت هذه التصريحات الرأى العام الروسى ولم تقعده، واعتبرها الشعب الروسى سواء المؤيد أو حتى المعارض للرئيس بوتين تنقصها اللياقة والأخلاق والدبلوماسية، الشعب الروسى غضب لإهانة رئيسه بهذا الشكل الفج، الرئيس بوتين من جانبه صرح فى رد فعل على كلمات الرئيس بايدن بقوله “القاتل هو من يصف الآخر بالقاتل” وتمنى، مؤكداً أنه لا يسخر من الرئيس الأمريكى، لبايدن الصحة”. الرئيس الروسى أعرب كذلك عن استعداده للقاء الرئيس الأمريكى لمناقشة كافة الملفات العالقة ومحل خلاف بين البلدين، وأكد مسئولون فى وزارة الخارجية الروسية على أن التنسيق بين موسكو وواشنطن فى سوريا على أعلى مستوى، وترغب موسكو أن يسرى هذا التنسيق على بقية المناطق محل الخلاف بين البلدين فى مناطق مختلفة من العالم.

الرئيس الروسى نأى بنفسه عن الوقوع فى مثل هذا المستوى من التلاسن وأعرب عن رغبته فى ترتيب لقاء (أون لاين) مع الرئيس بايدن لبحث كافة الأمور العالقة (هذا المقترح تقدم به الرئيس بوتين أثناء احتفال بالذكرى السابعة لاستعادة القرم وهى إحدى القضايا العالقة بين الغرب وروسيا) كما أعربت روسيا عن رغبة الرئيس بوتين للقاء نظيره الأمريكى فى المكان والزمان المناسبين، على أى حال الأمريكيين أعلنوا أنهم سيفرضون عقوبات بما لا يضر بمصالحهم مع روسيا، وهم على استعداد للتعاون معها بما لا يضر بالمصالح الأمريكية، وروسيا أعلنت نفس الشئ، أى أن التعاون بين الجانبين سيستمر فى إطار المصلحة الخاصة لكل دولة، ولم تفصح جين بساكى عن عقوبات قالت إنه لم يعلن عنها بعد.

فى اعتقاد كثير من المراقبين التصعيد الحالى بين واشنطن وموسكو يهدف إلى أن الرئيس الأمريكى ربما أراد تحقيق ما هدد به أثناء حملته الانتخابية، أو يريد أن تقدم روسيا تنازلات فى القضايا العالقة بينهما، على رأسها سوريا، أوكرانيا ودخلت على الخط مؤخراً ليبيا بعد التوافق الذى حدث، وروسيا لديها عقود ولديها أجندة كقوة عظمى، لن تسمح لواشنطن بالإنفراد بأى من هذه الملفات خاصة وأن واشنطن تريد أن تستعيد مواقعها فى أوروبا التى أهملها ترمب وخاصة فيما يتعلق بالأمور الدفاعية وانسحابه من المانيا، والكثير من اللغط والجدل مع قادة الاتحاد الأوروبى الذين وصلوا إلى حد أنهم كانوا يرغبون فى الاستغناء عن مظلة الحماية الأمريكية وإنشاء جيش خاص بهم.

فى تقدير الخبراء كذلك أن حرب باردة جديدة قد بدأت، والعالم فى انتظار ستار حديدى لا أحد يعرف أين سينزل هذه المرة، بل يذهب البعض لأبعد من ذلك ويقول إنها الحرب العالمية الثالثة تدور رحاها الآن، وينقصها أن تتبلور التحالفات بشكل أوضح، لنرى إلى أى مدى سيذهب التلاسن حتى فى المستقبل القريب، حتى الآن روسيا تتحلى بالصبر الجميل والسلوك الدبلوماسى بعيداً عن الألفاظ التى تنقصها الدبلوماسية..

 

التعليقات متوقفه