د. جودة عبدالخالق يكتب:الجنزورى .. الكبير

1٬126

لقطات
الجنزورى .. الكبير

د. جودة عبد الخالق
هذه شهادة للتاريخ في حق الدكتور كمال الجنزورى الذى رحل عن دنيانا الأسبوع الماضى. وقد بحثت عن كلمة واحدة لوصف الراحل العزيز، فلم أجد أفضل من كلمة “الكبير”. عاش الرجل حياة بسيطة، لكنها غنية بحب الناس. بدأ حياته في شقة بحى مصر الجديدة منذ أكثر من نصف قرن. وظل فيها إلى أن فارقنا إلى جوار ربه. لم يمتلك أرضا أو يبنى قصرا كما فعل غيره من كبار المسئولين، بل وحتى بعض صغارهم، ممن يتربحون من المنصب أو الوظيفة. وتشاء الظروف أن يكون بداية تعارفى بهذا النموذج الانسانى خلافا حادا في الرأي حول بعض الأمور المتصلة بالاقتصاد. لكن ذلك الخلاف لم يُفْسِد أبدا للود قضية. بل امتد حبل الود رغم الخلاف قرابة أربعين عاما.
ترك لنا الراحل كتابين. الكتاب الأول بعنوان مُطَوَّل ولكنه لا يخلو من إيحاء “طريقى؛ سنوات الحلم .. والصدام .. والعزلة. من القرية إلى رئاسة مجلس الوزراء”. وقد ضَمَّنَه مقتطفات من سيرته الذاتية ومراحل حياته، مُرَكِّزا على صدامه الهادئ مع مبارك، وانخراطه فى سلك الوظيفة العامة في مناصب عدة، إلى ان صار رئيسا لمجلس الوزراء مرتين. عاصر السنوات الأخيرة من حكم عبد الناصر، وعمل مع السادات ومبارك والمجلس العسكرى. وفى جميع المراحل كان انحيازه للشعب بكل طوائفه، خصوصا البسطاء ومتوسطى الحال، دون استدعاء أي شعارات أيديولوجية. دافع عن استقلالية القرار الوطنى، ورفع راية الإرادة والانضباط والانجاز. إنه رجل دولة من طراز رفيع.
و الكتاب الثانى عنوانه “مصر والتنمية”. وهو كتاب جدير بالقراءة، على خلفية الجدل القائم حاليا في مصر حول أولويات التنمية، و ضرورة الموازنة بين الاهتمام بالبشر والافتتان بالحجر. وقد سجل فيه ما “بَلَغَتْهُ مصر بالتنمية من .. انطلاقة إنتاجية وخدمية عادت على الوطن بالخير.” ويوضح كيف أحيا عملية التخطيط القومى، بعد مُوات طويل على يد الانفتاحيين وكهنة الأسواق (وكان منهم كاهن أعظم بدرجة رئيس وزراء). فتم وضع وتنفيذ خطة خمسية كجزء من خطة عشرينية. كما تم اطلاق 22 مشروعا قوميا لتعزيز قدرات قطاعات الانتاج الحقيقى في الزراعة والصناعة والخدمات (منها مشروع غير مسبوق ولا متبوع لإنشاء 7500 مدرسة بواقع 1500 مدرسة سنويا).
أسعدنى الحظ أن أعمل معه وزيرا في حكومة الإنقاذ 7 ديسمبر 2011- 8 أغسطس 2012 (عُرِفَت إعلاميا بفريق الأحلام). كان دائما يشدد على انتظام مواعيد الاجتماعات وألا يزيد الاجتماع عن ساعتين، بشرط الاعداد الجيد مسبقا. و حرصا على توفير نفقات مجلس الوزراء، شدد على ألا يصرف لأى وزير أثناء الاجتماعات سوى زجاجة مياه صغيرة وكوب شاى أو فنجان قهوة. لاحظت من المناقشات كيف وهبه الله ذاكرة استثنائية في المعلومات والأرقام. كان شعاره: العمل لا الكلام، والعطاء لا الأخذ. لم يمنحه الحاكم وساما ولا قلده وشاحا، كما فعل مع كثيرين أقل منه شأنا. لكن الشعب أعطاه ما هو أهم من الوشاح وأرفع من الوسام؛ فقد غمره بحبه الفياض. إنه الجنزورى الكبير.

التعليقات متوقفه