فريدة النقاش تكتب:في مديح الصناعة

549

قضية للمناقشة

في مديح الصناعة

*بقلم فريدة النقاش

يقول الخبر إن وزارة الصناعة والتجارة قد اتفقت مع شركة عالمية لتصنيع جرارات القطارات بنسبة مكون محلي تتجاوز الخمسين في المائة.
ومثلي مثل كل الاشتراكيين أسعد وأستبشر خيرا كلما تابعت أخبار تقدم التصنيع الثقيل في بلادنا, وقد كان هذا هو حلم “جمال عبدالناصر” وهو يؤسس مصانع الحديد والصلب في حلوان مطلع الخمسينيات من القرن الماضي. فللتصنيع الثقيل مكانة مميزة في الفكر الاشتراكي لأنه يحفز علي التفكير النقدي, أي العلمي, ويفتح بذلك الأبواب واسعة أمام التقدم بمعناه الأشمل شرط أن يندرج ضمن منظومة تتكامل كل عناصرها من مستوي الفكر الي مستوي الفعل, وتتيح للابداع الوطني الفرص الحقيقية للابتكار, فضلا عن أن الطبقة العاملة التي راهن عليها هذا الفكر هي الوليد الشرعي له, أي للتنصيع عامة.
ولا أنسي ذلك المشهد الذي لا يضيع أبدا في زحام الذاكرة حين كنا مجموعة من الصحفيين في زيارة للسد العالي في مطلع سبعينيات القرن الماضي, وتقدم منا عامل شاب يعمل في أحد المصانع التي مولها السد العالي بالكهرباء, وقدم لنا مزهوا عجلة صغيرة دقيقة جدا وعجيبة الشكل قائلا بفخر أنه هو الذي ابتكرها بعد أن تعطلت إحدي الماكينات وتعذر استيراد قطع الغيار بالسرعة اللازمة, فأعمل هو عقله ويديه, وصمم القطعة الناقصة ونفذها في موقعه, وبادر رفاقه في المصنع للاحتفاء به وتكريمه, وأذكر أن مؤسسته حينها كرمته ايضا, كما احتفينا به كصحفيين, وكتبنا عنه ونشرنا صورا له ولأسرته البسيطة.
وفي عيد العلم من كل عام, ذلك التقليد الذي ابتدعه المصريون منتصف القرن الماضي يزداد طابور المكرمين عددا وتخصصا, ويزداد أيضا عدد النساء بينهم, وعلي ما يبدو فإن فكرة التخطيط وقيمه التي أدمجتها ثورة يوليو في تراثنا الوطني قد اخذت تنتج ثمارها بينما ان مصر مازالت في التصنيف العالمي للتنمية بلدا متوسط النمو, رغم ان مشروع التصنيع فيها قد بدأ, ولو جنينيا- منذ عصر محمد علي, وهو ما كان مفترضا أن يؤهلها لموقع أكثر تقدما, موقع لم تصل إليه لأسباب كثيرة.
ورغم ما يقال في أوساط المحافظين من أن النظام الناصري قد وجد في اسرائيل شماعة يعلق عليها خيباته, فإن القراءة الموضوعية للوقائع والأحداث تدلنا بشكل مؤكد ان اسرائيل لعبت دورا رئيسيا في عرقلة حركة التقدم لا في مصر وحدها, وانما ايضا في الوطن العربي الكبير كمشروع استعماري المنشأ والاهداف وذلك بطبيعة الحال دون اغفال حقيقة للدور التدميري الذي قامت به نظم الاستبداد والفساد علي الصعيدين الوطني والقومي, فبددت الموارد, ووسعت الانقسام المجتمعي, وعمقت عنف الاستغلال .
وهيأت الارض – عمليا- للمشروع الصهيوني الذي ترسخت قواعده الي ان استقر علي حساب الشعب الفلسطيني.
وتبرز في هذا السياق ام القضايا- كما يقال- الا وهي العدالة الاجتماعية اي التوزيع المنصف لثمار التقدم بين طبقات الشعب, وهي القضية التي بذل الاشتراكيون جهودا نضالية عملية وفكرية نظرية علي مدي زمني طويل, بل وقدموا تضحيات هائلة من أجلها, مستهدفين الوصول بأفكارها وقيمها العليا لأوسع قاعدة من الجماهير, خاصة العمال والفلاحين والطبقة الوسطني, باعتبار هذه هي الفئات التي يقع عليها عبء الاستغلال في المجتمعات الطبقية, وهي صاحبة المصلحة الاساسية في قيام نظام اجتماعي منصف وعادل, تنطلق في ظله كل المواهب المدفونة التي غالبا ما يقضي عليها الفقر والفساد والتجاهل. وتبقي الصناعة دائما اساسا لمشروع التقدم.
وحين عرفت مصر مبدأ التخطيط والخطط الخمسية والعشرية.. الخ في ظل مشروع “يوليو” احتلت الصناعة عامة موقعا مرموقا, واستهدفت مصر من خلال مشروع السد العالي مضاعفة طاقة المياه للزراعة والكهرباء للصناعة.
وبقيت الصناعة هي درة التاج في قلب الخطط سواء ما جري تنفيذه منها او ما لم يكتمل, وقدم كبار الشعراء والموسيقيين والمطربين أعمالا خالدة ستبقي شاهدة علي هذا العصر اذ تجاوزت – بأشواط ما يسمي بفنون المناسبات. لأن ما كان يجري خلال هذه المرحلة من مسيرة التحرر الوطني المصري والعربي كان قد استقر في ضمير الشعوب التي دافعت بشرف عن حقها في الحياة الكريمة, وتحملت الكثير في سياق دفاعها هذا من قمع للحريات, لملاحقة المعارضين وصولا لقتلهم في بعض البلدان الي ان جاءت هزيمة 1967 التي غيرت كل الموازين والمعادلات, وعطلت قبل كل شيء مشروع التصنيع.. بل انطلقت في ظل سياسات الانفتاح الساداتية حملة تشهير واسعة ضد الصناعة عامة, وعادت الي صدارة المشهد الأفكار القديمة التي تقول ان مصر هي في الأساس بلد زراعي. وهو ما أدي – قديما- الي الحاق البلاد بالدائرة الاستعمارية كبلد متخلف, وعاجز بالضرورة عن الانفلات من هذه الدائرة.
والآن, ونحن نتطلع الي المستقبل علينا أن نرد الاعتبار لمركزية الصناعة في مشروع التحرر ليكون لهذا المشروع مستقبل.

التعليقات متوقفه