أمينة النقاش تكتب:ناقص حتة

542

ضد التيار
ناقص حتة

أمينة النقاش
لم يكن غريبا الحزن القومى العام الذى ساد مصر لرحيل الفنان سمير غانم . فالشعب المصرى وفى لمن أسعدوه ، تماما كما لا يغفر أبدا لظالميه .
شكل سمير على مدار ستين عاما حضورا آسرا على مستويات مختلفة، وتسلل بنعومة وخفة رائقة إلى وجدان الناس وسكن قلوبهم ، منذ ظهوره فى فرقة ثلاثى أضواء المسرح مع جورج والضيف أحمد ، مرورا بمواصلة رحلته الفنية وحيدا بدونهما، وحتى إطلالته فى إعلانه الأخير فى شهر رمضان مع الفنانة إيمى سمير غانم، عن الشركة الوطنية المصرية للاتصلات ،الذى لخص قدرته الطيعة الفذة على جلب الضحكة، باللمحة والإشارة والبربشة والهمسة والسخرية من النفس ، وكشف كذلك، أبوته الحانية .
حين ظهرت فرقة ثلاثى أضواء المسرح ،فى ستينيات القرن الماضى، كانت مدرسة عبد المنعم مدبولى وفؤاد المهندس فى الكوميديا قد بدأت عملها لتواصل ما انقطع من مدرسة الريحانى وتضيف إليها.بينما كان النموذج الأكثر شيوعا فى الكوميديا فى السينما الأمريكية بجانب شارلى شابلن وتوم أند جيرى والأخوة ماركس ،هو لوريل وهاردى: مواطنان من البسطاء،أولهما نحيل وبالغ الغباء،والثانى بدين يدعى الذكاء، وتطحنهما معارك الحياة ، ويسعيان للوصول لحلول لمشاكلها ،التى تكون فى الأغلب الأعم من صنع أيديهما. وتأتى الكوميديا من المفارقة التى تبرز بين طبيعة التفكيرين وتكوين الجسدين. ولعل ذلك النموذج قد خيم على عقل سمير غانم ، وهو يدعو الضيف أحمد، العضو بفريق تمثيل جامعة عين شمس للإنضمام إلى الفرقة. وكان الضيف أحمد كما هو معروف نحيل الجسد، وموهبة فنية كبيرة لم تمنحها الحياة فرصة لمواصلة البقاء. ومع خفة ظل جورج سيدهم وبدانته اكتملت الصورة .
أما سمير فكان شابا وسيما رشيقا،تمكن أن يشق لنفسه طريقا بين النحيل والبدين، ليصبح فى الفرقة وفى خارجها، جحا ،الشخصية التى ابتدعها الخيال الشعبى ،لينتقم عبرها بالدهاء والحكمة من مستغليه، والبلياتشو الباسم أبدا، والمهرج المضحك الباكى، وأهبل القرية ، والبهلوان المتلون بتاع كله، والفرفور المهمش الذى يقاوم بطش القوة وقبح الحياة بالمكر والحيلة والسخرية .
شكل سمير غانم خليطا بارعا من كل هؤلاء. وتوسل لصياغة مشروعه الفنى بموهبته وسرعة بديهته، ويقظته ونبع لا ينفد على الحكى وحرفة الارتجال، وذخيرة لا تنضب من الخيال الخصب المتجدد،وجاذبية فى الحضور ،لا حدود لخفة ظلها، ولطفها ، ولا لأفق تهكمها .
أخطأ بعض من ظن ، انه بوصفه تجربته الفنية بأنها اقتصرت فقط على الإضحاك ،قد قلل منها. ذلك أن الإضحاك جذوة ثرية من الفن والإبداع والفلسفة، تزيل الصدأ عن الروح لا يجيدها ، سوى من هم مثله. وفى تجربته استند سمير غانم على لعبة التخفى ،والقدرة على تبادل الأدوار التى برع فيها، وعلى ُصنع المفارقات وجلب المفاجآت المثيرة للسخرية من منطق اعتيادى كسول ،وقيم وسلوكيات مصطنعة سائدة فى المجتمع وفى الحياة. فيأخذ البديهيات والأعراف والتقاليد الراسخة، إلى حيث لا نتوقع، ويعيد ترتيب فوضاها، ويستدعى من ذاكرته البصرية والسمعية والحكايات الشعبية إفيهات تقلب المعنى الشائع للأشياء، وتتمرد عليه، ليرسم بها سماته الكوميدية الخاصة ،بما يدهش ويضحك ، ويبكى أحيانا ،ويطيب الخواطر، ويفتح وجدان الناس للحظات من النشوة ، وروقان البال ، فى كل الأحيان .
ومن التشابك بين الاستعارة والأبعاد الرمزية للإفيه والدلالة الإيمائية للموقف،وحتى الإيحائية للحظات الصمت، غزل سمير غانم علاقة من التواصل الحميمي غير المسبوق مع جمهوره، مخاطبا فيهم وفى نفسه، حنينهم الدائم لطفولتهم وإنسانيتهم ولعدالة الكون .
قبل سنوات لمعت كالبرق، ثم اختفت، أغنية بديعة للملحن والمطرب الفنان وجيه عزيز، من كلمات الشاعر الموهوب على سلامة الذى لمع كذلك كالبرق ثم اختفى بعنوان “ناقص حتة “. تقول كلماتها : كل ما أوزن االلاقى لسه ناقصنى حتة ، أحط حتة، تقل حتة. أجيب قميص ، تضيع جاكتة ، وأعيش لى ساعة ، يفوتنى ستة . وكل ما أوزن اللاقى ناقص ، أقول بناقص لو هية حتة ،أتارى لسه،ولسه تاخد سنين وحتة. وحاجات تسبنى، وحاجات تاخدنى ، وحاجات تخبط فى كل حتة,وأقول حتفرج ، ف يوم حتفرج ، ويوم ما تفرج ، على الله يفضل فى القلب حتة .وبرحيل سمير غام الفنان والمتحدث اللبق ورب الأسرة الفنية شديدة الفتنة والتميز والجمال ، لم يعد يبقى فى القلب موضع للسرور، وتظل الحياة “ناقصة حتة “.

التعليقات متوقفه